على العالم البحث عن طرق أخرى

أساليب تتبع الحكومات تمويــل الإرهاب أثبتت فشلها في القضاء عليه

صورة

خلال الأيام الأولى من «الحرب على الإرهاب»، وقبل أن تشنّ الولايات المتحدة ضربات جوية ضد حركة «طالبان»، أو غارات على مجمعات زعيم تنظيم «القاعدة» السابق، أسامة بن لادن، وقّع الرئيس الأميركي السابق، جورج دبليو بوش، القرار التنفيذي رقم 13224، هذا المرسوم الرئاسي، الذي يعود تاريخه إلى 23 سبتمبر 2001، كان يستهدف وضع حدّ لتمويل تنظيم «القاعدة»، عن طريق «حظر المعاملات» مع الإرهابيين المشتبه فيهم. وقال بوش في ذلك الوقت «إن المال هو شريان الحياة للعمليات الإرهابية»، وأضاف «إننا نطلب من جميع دول العالم وقف مثل هذه الأموال». وبعد خمسة أيام من ذلك، حذر مجلس الأمن الدولي من مثل هذه الأنشطة التمويلية، ودعا الدول إلى«منع وقمع تمويل» الإرهاب، في أول قرار له في هذا الخصوص منذ هجمات 11 سبتمبر.

إلا أنه بعد أكثر من 15 عاماً، فشلت الحرب على تمويل الإرهاب، وأصبح اليوم لدينا المزيد من المنظمات الإرهابية، التي تملك أموالاً أكثر من أي وقت مضى. في عام 2015، على سبيل المثال، بلغت ميزانية تنظيم «داعش» 1.9 مليار دولار، وفقاً لدراسة أجرتها كلية كينغز بلندن، وشركة المحاسبة آرنست ويونغ، ما يجعلها أغنى جماعة إرهابية في العالم. وبالمقارنة بلغ مجموع الأصول الإرهابية المجمدة في العام نفسه أقل من 60 مليون دولار. واستطاعت ثلاثة بلدان فقط هي إسرائيل، والسعودية، والولايات المتحدة، أن تصادر فقط أكثر قليلاً من مليون دولار من الأموال المشبوهة.

وانطلاقاً من الافتراض بأن الإرهاب والعمليات الإرهابية يكلفان مالاً كثيراً، سعت الحكومات لسنوات للحد من استخدام الإرهابيين النظام المالي الدولي، وأعدت هذه الدول قوائم سوداء، وجمّدت أصولاً، وفرضت لوائح لا حصر لها، تهدف إلى منع تمويل الإرهاب، ما يكلف القطاعين العام والخاص مليارات الدولارات.

الردع عن استخدام النظام المالي

يصعب العثور على أموال الإرهابيين، حيث إن زعيم تنظيم «القاعدة»، أيمن الظواهري، وزعيم تنظيم «داعش»، أبوبكر البغدادي، ليس لديهما حسابات مصرفية بأسمائهما، وهناك أفراد أقل رتبة منهما، ووسطاء لا يندرجون رسمياً في قوائم إرهابية من قبل الحكومات أو المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة، هم الذين يقومون بذلك.


دون أسماء أو هوية للإرهابيين أو مموليهم، لا تستطيع المصارف التعرف إلى الصفقات المشبوهة، وإذا كان على المصارف أن تحقق في كل حركة مالية لا ترى فيها على الفور مبرراً اقتصادياً مشروعاً، فإن عليها أن تدقق في عشرات الملايين من المعاملات كل يوم.

وربما ساعد هذا النهج على ردع الإرهابيين عن استخدام النظام المالي الدولي، ولكن لا يوجد دليل على أنه قد أحبط في أي وقت من الأوقات، حملة إرهابية، فمعظم الهجمات تتطلب القليل جداً من المال، ويميل الإرهابيون إلى استخدام مجموعة واسعة من الأساليب لتحويل وجمع الأموال، وكثير منهم يتجنب النظام المالي الدولي، وبدلاً من استمرارها في البحث عن الإبر في كومة من القش، يجب على الحكومات إصلاح نهجها في مكافحة تمويل الإرهاب، وتحويل تركيزها بعيداً عن القطاع المالي، واعتماد استراتيجية أوسع تشمل الخيارات الدبلوماسية والعسكرية وتطبيق القانون، وإلا فإنها ستضيع الوقت والمال على استراتيجية لا توفر الأمن لسنوات عدة مقبلة.

بعد شهر واحد من قتل الإرهابيين 130 شخصاً في باريس في 13 نوفمبر 2015، استضاف مجلس الأمن الدولي جلسة خاصة حول مكافحة تمويل الإرهاب، وقال وزير المالية الفرنسي، ميشيل سابين، إنه «في مواجهة هذه الوحشية العشوائية يقع علينا جميعاً واجب التصرف». وذكر أن مصادر التمويل الرئيسة لـ«داعش» تتمثل في «تجارة النفط وبيع الآثار والأعمال الفنية، والابتزاز، والاتجار في البشر». لكن بدلاً من أن يشرح كيف يمكن للمجتمع الدولي وقف تهريب النفط أو منع عمليات الاختطاف، دعا إلى تجميد الأصول المالية، ومراقبة المزيد من البنوك، وتحسين التحريات المالية، وإصدار لوائح أكثر صرامة بشأن المعاملات النقدية الرقمية.

خطاب بعيد عن أرض الواقع

كان خطاب سابين بعيداً عن أرض الواقع أكثر من المعتاد، وحتى إذا فهمت الحكومات المصادر المتعددة والمتنوعة لتمويل الإرهاب، فإنها عادة ما تتجه نحو النظام المالي للقضاء عليه. والتفسير الواضح لفشل الحد من تمويل الإرهاب، هو أن المسؤولية في خنق تمويل الإرهابيين تقع في معظم البلدان على عاتق وزارات المالية، التي هي في الحقيقة منفصلة عن استراتيجيات مكافحة الإرهاب الأوسع نطاقاً، ونتيجة لذلك، تستجيب الحكومات عادة للهجمات الإرهابية، من خلال تشديد الإجراءات المالية، ومطالبة المصارف بتجميد المزيد من الأصول، ومواصلة دعم فرق العمل المعنية بالإجراءات المالية، والمتمثلة في الهيئات الحكومية التي ترصد المعايير الدولية، المتعلقة بغسل الأموال وتمويل الإرهاب. وفي بيان صريح قال وزير الخزانة الأميركي، جاكوب ليو، في جلسة مجلس الأمن نفسها، ان الهدف ليس فقط حرمان الإرهابيين من التمويل، لكن أيضاً «حماية النظام المالي الدولي».

وقد فشل هذا النهج لسببين:

أولاً، من الصعب العثور على أموال الإرهابيين، حيث إن زعيم تنظيم «القاعدة»، أيمن الظواهري، وزعيم تنظيم «داعش»، أبوبكر البغدادي، ليس لديهما حسابات مصرفية بأسمائهما، وهناك أفراد أقل رتبة منهما، ووسطاء لا يندرجون رسمياً في قوائم إرهابية من قبل الحكومات أو المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة، هم الذين يقومون بذلك.

ومن دون أسماء أو هوية للإرهابيين أو مموليهم، لا تستطيع المصارف التعرف إلى الصفقات المشبوهة، وإذا كان على المصارف أن تحقق في كل حركة مالية لا ترى فيها على الفور مبرراً اقتصادياً مشروعاً، فإن عليها أن تدقق في عشرات الملايين من المعاملات كل يوم، وبالنظر إلى أن العمليات الإرهابية غير مكلفة - لم تكلف الهجمات الأخيرة في أوروبا أكثر من 30 ألف دولار - سيتعين على البنوك إجراء تحقيقات متعمقة في هذا الشأن في ملايين من المعاملات، التي تبلغ قيمتها أقل من 1000 دولار. وما دامت الحكومات غير راغبة في تبادل المزيد من المعلومات الاستخباراتية حول المشتبه فيهم والكيانات المشبوهة مع البنوك، فإن الدعوات الموجهة للقطاع المالي للقضاء على تمويل الإرهابيين لا تعدو أن تكون أكثر من مجرد خطاب سياسي.

ثانياً، كميات كبيرة من الأموال الإرهابية لا تدخل أبداً النظام المالي الدولي، ففي بلدان مثل أفغانستان والعراق والصومال وسورية واليمن، حيث توجد معاقل لتنظيمي «القاعدة» و«داعش»، فإن نسبة ضئيلة جداً من السكان يملكون حسابات مصرفية، حتى المعاملات الكبيرة والمشروعة تتم نقداً، وهذا يعني أن معظم الناس لا تتفاعل مع النظام المالي الدولي على الإطلاق، ونتيجة لذلك، فإن عدداً ضئيلاً من المعاملات المالية للجماعات الإرهابية تظهر في كشوف الحسابات المصرفية.

وفي الواقع، لم تصبح الرقابة على القطاع المالي غير مجدية وغير فاعلة فحسب، وإنما أضرت الأشخاص الأبرياء والأعمال التجارية. ولتلبية مطالب صانعي السياسات، خاطرت المؤسسات المالية بمحافظها، وأماطت اللثام عن استثمارات ومتعاملين قد لا يكونون مرتبطين بتمويل الإرهاب. ومن دون معلومات استخباراتية عن أفراد وكيانات محددة، تضطر المصارف إلى الاعتماد على قواعد بيانات مفتوحة المصدر من أجل تحقيق هذا الهدف، إلا أن قواعد البيانات هذه تحتوي على معلومات غير دقيقة عفا عليها الزمن.

وعلاوة على ذلك، فإن عدم الخوض في مثل هذه المخاطرة، قد أدى إلى استبعاد فعلي لبلدان بأكملها من النظام المالي الدولي، ومعظمها من البلدان الفقيرة مثل أفغانستان والصومال. وقد تم إغلاق الحسابات المصرفية للاجئين والجمعيات الخيرية التي تعمل في مناطق مزقتها الحرب الأهلية، ما قطع الروابط المالية حتى مع المواطنين الغربيين، الذين لهم روابط أسرية مع ما يسمى بلدان الخطر.

ومن الناحية العملية، لا يقدم أي مصرف غربي الآن خدمات تحويل أموال إلى الصومال، على سبيل المثال، على الرغم من أن 40% من السكان يعتمدون على التحويلات من الخارج. وعندما أغلق آخر بنك أميركي كان يقدم مثل هذه الخدمات في أوائل عام 2015، أطلق الأميركيون الصوماليون حملة على «تويتر» مستخدمين الوسم #أموال الطعام وليس الإرهاب.

وبالإضافة إلى تهديده حياة أشخاص لا حصر لهم، وتقويض عمل الجمعيات الخيرية المشروعة، أدى تعطيل الخدمات المالية إلى إحداث طفرة في الخدمات المالية غير المنظمة وغير الرسمية، وبدلاً من استخدام المصارف الغربية، يعتمد المهاجرون إلى الغرب بشكل متزايد على أنظمة تحويل الأموال غير الرسمية، المعروفة باسم شبكات الحوالة في العالم الإسلامي، لإرسال التحويلات إلى الوطن. وعلى النقيض من البنوك، تعتمد هذه الشبكات على الثقة، وتتطلب القليل من الأوراق الثبوتية، ولا تحتفظ بسجلات منتظمة أو مركزية، وتقع خارج نطاق هيئات تنظيم تحويل النقد الحكومية. وبعبارة أخرى، أدى حظر الإرهابيين من النظام المالي الدولي إلى ظهور وسيلة أخرى لنقل الأموال في جميع أنحاء العالم، دون أن يتعرضوا للكشف.

استراتيجية تعتريها المشكلات

إلا أن الاستراتيجية الحالية المتعلقة بتمويل الإرهاب تعتريها المشكلات، حيث إن فكرة تمويل الإرهاب نفسها هي مضللة في حد ذاتها، لأنها تفترض أن هناك مجموعة محددة من الأساليب المالية التي تستخدمها جميع الجماعات الإرهابية. وفي حقيقة الأمر، فإن مفهوم تمويل الإرهاب يحدد الغرض من هذا التمويل، ما يجعل من الصعب تعميم مصادره وأساليبه. الجماعات الإرهابية المختلفة تمول عملياتها بطرق مختلفة، وقد تختلف الأساليب بالنسبة للشبكات العابرة للبلاد مثل «القاعدة»، من مكان لآخر. ولنأخذ جماعة (الشباب) في شرق إفريقيا، التي تتاجر في العاج مثلاً، فعندما انكشف هذا الأمر عام 2013، سارع الصحافيون والخبراء إلى إضافة الصيد غير المشروع إلى قائمة أساليب تمويل الإرهاب، وبدأ السياسيون، مثل وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، هيلاري كلينتون، في الدعوة إلى العمل ضد تجارة العاج، كجزء من الحرب العالمية على الإرهاب. وكان ينبغي أن يدرك العالم أن مكافحة تجارة العاج خارج مناطق نفوذ الشباب لن تفعل شيئاً يذكر لمكافحة الإرهاب.

بيتر آر نيومان  صحافي وأكاديمي ألماني

 

تويتر