بكين تتوخى الحذر وتستفيد من دور واشنطن في المنطقة

لا تعارض بين مصالح الصين وأميركا في الشرق الأوسط

صورة

طوال أكثر من 10 سنوات، شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مستوى من العنف وعدم الاستقرار لم يسبق له مثيل في تاريخها الحديث، في حين لا يظهر هذا الاضطراب أي علامة على التراجع. وخلال هذه الفترة، أصبحت الاستدامة الطويلة الأجل لدور الولايات المتحدة كضامن أمني موضع تساؤل متزايد، سواء في أميركا أو في المنطقة المضطربة. وفي الوقت نفسه، نمت استثمارات الصين في الشرق الأوسط، وكذلك بصماتها الاقتصادية والدبلوماسية والأمنية.

الدور الصيني محور اهتمام الأكاديميين

أصبحت تدخلات الصين ونواياها في الشرق الأوسط محور اهتمام مجموعة من الدراسات الأكاديمية والسياسية على نحو متزايد، ومعظمها ينظر إلى التدخلات الصينية في الشرق الأوسط من خلال عدسة الأمن، مع اهتمام خاص بالآثار المترتبة على تدخلات بكين في المنطقة على الولايات المتحدة وحلفائها، وذلك رغم أن علاقة الصين المتطورة في المنطقة مرجعها مصالحها الخاصة في تأمين احتياجاتها من الطاقة، وتطوير أسواق التصدير، فضلاً عن حقيقة أنها أصبحت قوة عالمية كبيرة، ولا تستطيع أن تعزل نفسها عن الأحداث في العالم العربي. وتميل الصين عادة إلى استخدام مصطلح «غرب آسيا وشمال إفريقيا» كبديل عن مصطلح «الشرق الأوسط» لتعريف تلك المنطقة، ووفق هذا التقسيم الجغرافي، تقوم بهيكلة مؤسساتها الحكومية والحزبية المعنية بإدارة العلاقات مع دول المنطقة. ومن المعروف أن الصينيين بمجملهم، بمن فيهم أيضاً بعض المسؤولين الحزبيين والحكوميين، لا يفرّقون كثيراً بين القوميات والشعوب في هذه المنطقة، بل عادة ما يخلط كثير منهم بين الإسلام كدين والعروبة كقومية. على الرغم من العلاقات التاريخية الموغلة في القدم، التي تعود إلى قرون عدة، إلا أن منطقة «الشرق الأوسط» لم تكن يوماً محور اهتمام في الاستراتيجية الصينية كما هي عليه اليوم، كما أن دول المنطقة من جانبها لم تنظر إلى الصين كلاعب دولي يمكن الاعتماد عليه، فقد ظل الدور الصيني محدوداً وهامشياً، يقتصر على التبادلات التجارية والثقافية، ولم تسعَ بكين إلى وجود فعلي أو إلى إقامة مناطق نفوذ لها في المنطقة، أسوة بالقوى الدولية الأخرى.

عن مركز الدراسات الدولية والاقليمية

في هذا السياق، هل هناك أي مؤشرات على أن الولايات المتحدة والصين ستصبحان حتماً، أو أصبحتا بالفعل، منافسين استراتيجيين في الشرق الأوسط؟

بكين لديها مجموعة واسعة من المصالح في الشرق الأوسط، وفي مقدمتها الوصول المستمر إلى موارد الطاقة في المنطقة، إضافة إلى إيجاد فرص استثمارية جديدة وعقود لمشروعات البنية التحتية للشركات الصينية، وكذا الحصول على حصة سوقية لمنتجاتها. إن اهتمام الصين الرئيس الثاني في الشرق الأوسط، هو تنمية العلاقات، وبناء النفوذ مع القوى الإقليمية خارج الجوار الآسيوي والمحيط الهادئ. وتحتل السعودية وإيران ومصر مكانة بارزة في حسابات بكين. وتعتبر المنطقة ككل مهمة، بسبب مواردها الوفيرة من الطاقة، وموقعها كتقاطع جغرافي استراتيجي، ودورها المحتمل في إعادة توازن الاقتصاد الصيني غرباً، في إطار مبادرة «الحزام والطريق الواحد».

والاهتمام الثالث هو الحفاظ على الأمن الداخلي، من خلال منع الأيديولوجيات الراديكالية والشبكات المتطرفة التي تتجذر في المنطقة، من الوصول إلى الصين.

رابعاً، لدى الصين مصلحة عامة في الشرق الأوسط، كما هي الحال في المناطق الأخرى، كمسرح لكسب الاعتراف بها قوة عظمى شرعية.

حصة متنامية

تستورد الصين أكثر من نصف نفطها من الخليج، فضلاً عن ثلث الغاز الطبيعي. وقد أنشأت شركات الطاقة الرئيسة الصينية خطاً للتوريد في الشرق الأوسط. تمتد شراكات الطاقة بين الصين والشرق الأوسط إلى مشروعات البتروكيماويات والغاز الطبيعي في المنطقة، ومشروعات التكرير في الصين نفسها.

ومع ذلك، فإن الأنشطة التجارية والطموحات التجارية تتجاوز بكثير قطاع الطاقة. الشرق الأوسط هو سوق نمو للمنتجات الاستهلاكية بأسعار معقولة، والصين هي الآن أكبر مصدر للواردات في المنطقة. وتستورد البحرين ومصر وإيران والسعودية من الصين أكثر من أي بلد آخر، في حين تفوز الشركات الصينية بعقود لمشروعات الهندسة والبناء وتطوير البنية التحتية. وفي السنوات الأخيرة، انتعشت أيضاً الاستثمارات الصينية في المنطقة، وتسعى الصين للتعاون في قطاعات جديدة، بما فيها الطاقة النووية، والمتجددة، وتكنولوجيا الفضاء.

ظروف متقلبة

إلى وقت قريب نسبياً، لم تكن بكين ترى أن الصراعات في المنطقة تؤثر بشكل مباشر في مصالحها، غير أن اعتمادها الشديد على الطاقة في الشرق الأوسط جعلها معرضة بشدة لإمكانية حدوث انقطاع في العرض، وارتفاع في الأسعار، نتيجة للاضطرابات والصراعات في المنطقة. وعلى الرغم من التقدم المحرز في تنويع مصادر الإمدادات، فإن الاقتصاد الصيني لايزال يعتمد اعتماداً كبيراً على النفط في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي فهو معرض بشدة لسياساته المتقلبة.

ونتيجة لتزايد وجودها في المنطقة، تكبدت الصين مخاطر إضافية. وأثار الاضطراب في الشرق الأوسط مخاوف صانعي السياسات الصينية من انتشار الأيديولوجية المتشددة، واحتمال عودة المقاتلين الأجانب الصينيين لارتكاب أعمال إرهابية، فضلاً عن تعليق أو التخلي عن العقود المربحة، أو الإضرار بأصول الاستثمارات أو تدميرها، وتعرض العمال الصينيين في الخارج للخطر. وقد أدى التعرض المتزايد لهذه التهديدات المتنوعة إلى ضرورة قيام بكين، على وجه السرعة، بتطوير الأدوات الدبلوماسية والعسكرية التي تستجيب لها.

أكثر قابلية ونشاطاً

أثار نفوذ الصين الأكثر عمقاً في الشرق الأوسط، وما يصحبه من مخاطر، الكثير من التكهنات حول ما إذا كانت بكين لديها استراتيجية طويلة الأجل، ولو كانت هناك بالفعل استراتيجية من هذا القبيل، فإن القيادة الصينية لم توضحها صراحة وعلناً. ومع ذلك، يمكن أن نستخلص من البيانات الرسمية الصينية وجود ثلاثة مبادئ مترابطة تحكم نهج بكين في المنطقة:

أولهاً، شراء ما تحتاجه وبيع ما تستطيع.

ثانياً، لا تتدخل في الشؤون السياسية المحلية أو في ما بين الدول.

ثالثاً، التأكيد على الحوار والتنمية، بدلاً من استخدام القوة، كحل لمشكلات الشرق الأوسط، وبالتالي تمييز الصين عن القوى الخارجية الأخرى في المنطقة.

إن التزام بكين بعدم التدخل في الشرق الأوسط يهدف إلى تجنب المشاركة المباشرة في الصراعات أو الأزمات، والتهرب من مواقف واضحة بشأن القضايا الخلافية. ومن الواضح أن الصين ليست حريصة على القيام بدور مركزي كصانع سلام. وكانت أول ورقة سياسة صينية متعلقة بالشأن العربي، في يناير 2016، غامضة. وقد اكتسبت بعض المحاولات المؤقتة، مثل خطة بكين ذات الأربع نقاط لسورية، القليل من الجاذبية. ومع ذلك، فإن سياسة الصين في الشرق الأوسط، كما هي الحال في أي مكان آخر، كانت أكثر مرونة وعملية وتجريبية مما يصور في كثير من الأحيان. وأصبحت بكين نشطة بشكل متزايد على الجبهة الدبلوماسية، وذلك أساساً من خلال مؤسسات متعددة الأطراف، مثل الجامعة العربية، والمنتدى الصيني الخليجي، وضم تسعة بلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كأعضاء في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية.

قوات قتالية

كما لعبت الصين دوراً أمنياً أكثر وضوحاً في المنطقة، خلال السنوات الأخيرة، خصوصاً في نشر قوات قتالية لحفظ السلام في جنوب السودان، إضافة إلى بناء أول قاعدة بحرية خارجية في جيبوتي. وعلاوة على ذلك، فإن إجلاء السفن البحرية التابعة للجبهة الشعبية لتحرير السودان في ليبيا واليمن، إضافة إلى التشريعات التي تجيز عمليات مكافحة الإرهاب الأكثر توسعية خارج حدود الصين، يدل على أن الصين ترغب في تأمين مصالحها في جميع أنحاء العالم، واستخدام القوة إذا لزم الأمر.

جون كالبريس أستاذ السياسة الخارجية الأميركية ومدير مشروع الشرق الأوسط وآسيا في معهد الشرق الأوسط.

تويتر