على الرغم من تسخيرها لمصلحته

الاحتجاجات ضد الرئيس الروســي تعمّ مناطق عدة من البلاد

صورة

في الوقت الذي يبحث العالم عن إشارات اضطرابات في العاصمة الروسية موسكو، تتشكل تظاهرات صغيرة في مناطق متفرقة من البلاد ضد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، فكل صباح قبل الساعة 11 مباشرة، يترك إيغور ليتفينوف عمله في مصنع إعداد الدجاج، لينطلق للساحة الرئيسة في هذه المدينة المكونة من نحو 65 ألف شخص في جنوب روسيا. ويلتقي هناك بزوجته إيرينا، لينضما إلى مجموعة من العمال تتجمع كل يوم، منذ العام الماضي، لتتظاهر أمام مكاتب شركة كينجكول المحدودة المغلقة، جهة عملهم السابق.

وفي اليوم الصحو، عندما لا يكون هناك صقيع، يتجمع نحو 200 شخص للاحتجاج، أما في الأيام الباردة فيهبط العدد إلى نحو 60 شخصاً. أفلست شركة التعدين التي كانوا يعملون فيها، وأغلقت أبوابها منذ عامين، ما أدى إلى فقدان 2300 شخص في منطقة روستوف وظائفهم. والأسوأ من ذلك أن الشركة توقفت عن دفع رواتب عمالها منذ 2013، أي قبل عامين من إفلاسها، ويظل المتظاهرون يحتجون من أجل أجورهم الضائعة.

- اضطرابات اليوم تشبه ما كان يحدث في العصور الوسطى الروسية، وهو أن «القيصر طيب لكن العيب في الإقطاعيين - أي الأرستقراطيين المحليين في الوقت الراهن - «هم السيئون».

- تحولت المناشدات المستنجِدة ببوتين إلى موجة من الغضب الموجّه ضده وضد «حزب روسيا المتحدة» الحاكم.

ويقول ليتفينوف (33 سنة) إن «ما حدث هنا ببساطة أن الحكومة سرقت أموالنا»، لهذا السبب يجعل العمال السابقون الساخطون هذه الاحتجاجات جزءاً من جدولهم اليومي، مثل جلب رغيف الخبز وتدبير الحليب. وخلال تظاهرهم اليومي يولون ظهورهم مصنع كينجكول، وأمامهم تمثال للزعيم السوفيتي، فلاديمير لينين، الذي يولي ظهره أيضاً للمصنع المغلق في إشارة رمزية. وتستمر احتجاجاتهم من الاثنين إلى الجمعة، لساعة واحدة على وجه التحديد، وهو الوقت الذي خصصته لهم الحكومة المحلية للتجمع. وتقول لاريسا أنتيبوفا (48 عاماً) التي عملت في وظيفة مفتش مراقب الجودة في الشركة «سنأتي إلى هنا للتضامن حتى يتم منح آخر شخص ما هو مستحَق له».

أصبحت هذه المشاهد شائعة على نحو متزايد في جميع أنحاء روسيا، ونتجت عن الركود الذي استمر عامين بسبب العقوبات الغربية وأسعار النفط المنخفضة. وشهد العام الماضي أكثر من 200 احتجاج على قضايا متعلقة بالعمل، وفقاً لبحث أجراه «مركز الإصلاح الاقتصادي والسياسي»، وهو منظمة مستقلة مقرها موسكو. وزادت وتيرة الاحتجاجات بنسبة 34% في عام 2016 مقارنة بعام 2015، وفقاً لمؤسسة «آي إتش إس ماركيت»، وهي مجموعة تحليلية مقرها لندن. أكثر من نصف هذه الاحتجاجات، مثل الذي يحدث في غوكوفو، يحدث نتيجة لمشكلات متعلقة بعدم دفع الرواتب.

وكان العالم قد لاحظ، الشهر الماضي، تحولاً في طبيعة هذه الاحتجاجات عندما انطلقت تظاهرات واسعة النطاق احتجاجاً على الفساد، نظمها زعيم المعارضة، ألكسى نافالنى، هزت المدن في جميع أنحاء روسيا، ما أدى إلى مئات الاعتقالات، بمن فيهم الكثير من الشباب. واعتبرت هذه الاحتجاجات على نطاق واسع أول تحدٍّ حقيقي للكرملين منذ سنوات. إلا أن الاحتجاجات المستمرة في قلب منطقة بوتين التقليدية - في أماكن مثل غوكوفو وأماكن أخرى - هي التي قد تكون المقياس الأفضل لكيفية استمرار السخط الحالي العميق ضد السلطات في روسيا.

يمكن لأي شخص أن يرى اتساع الغضب في روسيا من خلال الاطلاع على الخريطة التفاعلية التي وضعها باحثو «مركز الإصلاح الاقتصادي والسياسي» على الإنترنت، حيث ترصد هذه الخريطة كل يوم انطلاق الاحتجاجات في أي من أنحاء المناطق الزمنية الـ11 في البلاد، التي تنطلق مثل الحرائق، ففي المدن والبلدات بدءاً من منطقة كالينينغراد على بحر البلطيق، إلى مواقع سكانية نائية في عمق سيبيريا، هناك المزيد من العمال الذين يحتجون على عدم دفع رواتبهم.

هذه الاحتجاجات لا تشكل بالضرورة تهديداً للنظام، لكن في أغلب الأحيان يناشد المتظاهرون بوتين مباشرة التدخل نيابة عنهم، ويحملون لافتات تقول «بوتين.. ساعِدنا». في سبتمبر الماضي، أقدم سائقو حافلات عاطلين عن العمل في مدينة بيلغورود، التي تقع في منتصف الطريق بين موسكو وروستوف، على كتابة عبارة «بوتين.. ساعِدنا» وصوروها مع حافلاتهم الصفراء والبيضاء بالفيديو مستخدمين طائرة بدون طيار.

وحظي هذا المقطع بعشرات الآلاف من المشاهدة، يقول البعض إن مخاطبة بوتين مباشرة تشير إلى قوة الرواية المعتمدة من الكرملين بأن معاناة الروس تنبع من عوامل خارجية، مثل العقوبات الغربية وخوف الروس، أو في أسوأ الأحوال، فساد الأوليغارك، وهم مجموعة من أصحاب الثروة والنفوذ في البلاد، لكن لا يقع اللوم على الرئيس الروسي نفسه.

يقول محلل مخاطر الدولة بمؤسسة «آي إتش اس ماركيت»، أليكس كوكشاروف، معلقاً: «أصبح بوتين الحاكم الأعلى»، ويشير إلى ما فعله سائقو الحافلات «هذه دعاية فعالة للغاية، مماثلة لتلك التي كانت تستخدم في الثلاثينات من القرن الـ20»، في إشارة إلى ذلك الوقت الذي سعى من تعرضوا للإساءة من قبل الأجهزة الأمنية السوفييتية لمخاطبة الزعيم السوفييتي، جوزيف ستالين، معتقدين أن رئيس الاتحاد السوفييتي إذا عرف ما يجري فإنه سيضع حداً لهذا الاضطهاد.

ويقول كوكشارف أيضاً إن ذلك يشبه ما كان يحدث في العصور الوسطى الروسية، وهو أن «القيصر طيب، لكن العيب في الإقطاعيين»، أي إن الأرستقراطيين المحليين في الوقت الراهن «هم السيئون». أحدث تقييمات بوتين تدل على ذلك: ففي مارس، انخفضت شعبية الرئيس، البالغ من العمر 64 عاماً، قليلاً لتصل إلى 82%، لكنها لاتزال في مستويات قياسية، وفقاً لمركز ليفادا، وهو مؤسسة استطلاعية مستقلة.

ولكن في غوكوفو تحولت المناشدات المستنجدة ببوتين إلى موجة من الغضب الموجه ضده وضد «حزب روسيا المتحدة» الحاكم. يقول عامل المناجم المتقاعد، فاليري دياكونوف: «لقد أصبح بلدنا موبوءاً بالرق والفساد»، وعلى الرغم من أن هذا الرجل لم يتأثر مالياً باضطرابات كينجكول، حيث إنه يتقاضى راتب تقاعد متواضعاً من الدولة، إلا أنه أصبح الزعيم الفعلي للمتظاهرين في غوكوفو، وفي الصيف الماضي اتهم بتهديد ضابط شرطة في تجمع غوكوفو ببندقية هوائية، ولايزال قيد الإقامة الجبرية، ويقول «لم أر الشمس منذ 20 عاما وإنما الفئران فقط»، ويضيف «والآن يعتبرونني مجرماً».

ويسترسل «لقد أصاب الطاعون - الفساد - روسيا، ووصل الشعب إلى نقطة الانهيار، لكن أنا ضد الدم، نحن بحاجة إلى طريقة سلمية لإقامة حكومة جديدة».

وتعتبر المواجهة المستمرة فى غوكوفو، التي بدأت في مايو من العام الماضي، واحدة من أطول الاحتجاجات في البلاد، إن لم تكن الأطول. ويبدو أن تنظيم احتجاج مستمر في روسيا الحديثة لفترة تمتد لمثل هذا الوقت ليس أمراً سهلاً، لأن ذلك يتطلب إذناً من السلطات المحلية إذا كان أكثر من شخص يريد المشاركة في مظاهرة عامة، وهناك قدر ضئيل من التسامح مع المعارضة، وبعبارة أخرى لا يمكن تأمين الضوء الأخضر طوال التظاهر. ومن يعصِ القوانين يتعرض للغرامات والحبس. وفي غوكوفو يتم تصوير أرباب العمل السابقين في كينجكول بانتظام من قبل رجال الشرطة من على بُعد أقدام عدة.

وتشتمل المظاهرات واسعة النطاق - التي فاجأت روسيا الشهر الماضي، والاحتجاجات الصغيرة والمحلية مثل تلك التي تجري في غوكوفو تحت الرقابة الحكومية - على مجموعتين مختلفتين من المتظاهرين؛ المحتجون الذين استجابوا لحملة نافالني هم من الشباب الذين يعارضون من خلال الإنترنت، والذين ظل يحكمهم بوتين منذ أن كانوا أطفالاً، أما أولئك الذين يحتجون في الريف والمدن الصغيرة فمعظمهم من كبار السن، الذين ينتمي بعضهم للعصر السوفييتي، وهم أكثر خوفاً من الكرملين، لكن الفجوة بين هاتين المجموعتين يمكن أن تكون ضيقة، فالشباب والكبار، المتعلمون والطبقة العاملة يركزون في الاضطرابات الأخيرة على قضية الفساد. وفي استطلاع للرأي نشره ليفادا، هذا الشهر، وصف الروس إنجازات بوتين الكبرى بأنها تتمثل في تعزيز الجيش ومكانة البلاد في العالم. وهذا على النقيض من استطلاعات الرأي قبل عقد من الزمان، عندما أشادوا بإدارته للاقتصاد، كما اظهر استطلاع ليفادا أن 38% من الروس استجابوا لاحتجاجات نافالنى، التي ركزت على ثروات رئيس الوزراء، ديمتري ميدفيديف.

تويتر