على الرغم من ترددها

توجّه السلطة الفلسطينـيـة للجنائية الدولية يؤلب العالم ضد إسرائيل

صورة

ما من شك في أن مهرجان الحب في البيت الأبيض بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، منتصف فبراير الماضي، قد ألقى بظلال قاتمة بالفعل على آمال الفلسطينيين في التوصل إلى سلام مستدام يقوم على التسوية السياسية. وجاءت الضربة الكبرى عندما أوحى ترامب بأنه تخلى عن حل الدولتين، وتأييده لمقترحات الدولة الواحدة، وفقاً لموافقة الطرفين على مثل هذه المقترحات، وهي المقترحات التي يكاد يكون من المستحيل أن نفترض أنها ستتحقق على أرض الواقع، نظراً لأن إسرائيل لن توافق على دولة علمانية، تتجاهل بشكل فعال الإصرار الصهيوني على دولة يهودية ذات جذور تاريخية عميقة، مؤكدة في الكتاب المقدس، حسب زعمهم، كما أن الفلسطينيين لن يوافقوا على العيش في مثل هذه الدولة اليهودية الواحدة، التي تتخلى بصورة أساسية عن نضالهم الطويل لتحقيق تقرير المصير الوطني، وبالتالي التحرر من آخر بقايا الحقبة الاستعمارية الكبرى.

إيجابيات وسلبيات اللجوء إلى المحكمة

الحجج التي تصب في صالح اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية هي تقريباً واثقة بإحراز تقدم، إذ إنها ستحصر إسرائيل في زاوية ضيقة. ومن المؤكد أن حكومة نتنياهو ستتفاعل بغضب، وبتعبيرات ملموسة من العداء لأي خطوة من هذا القبيل تتخذها السلطة الفلسطينية. وسينظر إلى مثل رد الفعل هذا على نطاق واسع بأنه دليل مقنع على سقوط إسرائيل في أي اختبار لنزاهتها، حول ما إذا كانت سياساتها الاستيطانية تلبي الحد الأدنى من متطلبات القانون الدولي. والأهم من ذلك أن هذه الخطوة، بالنسبة للسلطة الفلسطينية، ستثبت، على الرغم من خيبات الأمل السياسية الأخيرة، أن قيادة رام الله مستعدة للسير في مسار عملي يعكس الشجاعة السياسية، بما في ذلك الاستعداد لتحمل الأعمال الانتقامية المتوقعة.

إن اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية سينعكس بشكل جيد على الشعب الفلسطيني، خصوصاً أولئك الذين يعيشون تحت الاحتلال، ويكابدون توترات يومية مع جماعات المستوطنين العنيفة، ولا يرون لأنفسهم مستقبلاً في خضم المواجهة الغائبة مع إسرائيل، فإذا اختارت السلطة الفلسطينية أن تسلك مثل هذا الطريق، فإن ذلك من شأنه أن يساعدها على استعادة تأييدها، لتكون بمثابة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني على المستوى العالمي، وهذا بدوره يمكن أن يؤدي في النهاية إلى ترتيبات وحدة دائمة بين حركتي «حماس» و«فتح»، والذي من شأنه أن يرفع مستويات الثقة خلال مرحلة صعبة من حركة الفلسطينيين الوطنية.

أما الحجج ضد الذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية فهي إلى حد ما لا تعدو أن تكون سوى مراوغة. ليس هناك من شك في أن فلسطين، التي تعترف بها الأمم المتحدة كدولة، تتمتع الآن بالمؤهلات القضائية للمشاركة في إجراءات المحكمة الجنائية الدولية، ولكن ليس من الواضح ما إذا كانت المحكمة الجنائية الدولية تستطيع الالتفاف على العقبات التقنية، مثل العثور على المتهمين الإسرائيليين، فقد ظلت المحكمة الجنائية الدولية خلال 15 عاماً من عملها مترددة جداً في اتخاذ أي قرار في أي مكان في العالم إلا في إفريقيا، وحتى في عملها هناك عانت أخيراً ضربة كبيرة من جانب الحكومات الإفريقية والاتحاد الإفريقي. وكانت المحكمة الجنائية الدولية مترددة في إثارة المعارضة السياسية في الغرب، والتي من شأنها أن تحدث بالتأكيد في أقرب وقت تبدأ فيه المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً كاملاً في المظالم التي يعانيها الشعب الفلسطيني جراء الظلم الإسرائيلي.


على الرغم من هذه الظروف التي تجعل من المحكمة الجنائية الدولية تبدو خياراً جذاباً، فإن قرار السلطة الفلسطينية لسلوك هذا الاتجاه هو أبعد ما يكون عن الوضوح.

• يبدو أن إسرائيل في جميع تحركاتها تنوي المزيد من التوسع، وربما تتجه إلى الإعلان من جانب واحد قريباً عن نهاية للصراع، وهي الخطوة التي تعتقد واشنطن أنها عرجاء مؤقتاً، لكنها في النهاية مقبولة.

من ناحية أخرى، وعد ترامب أيضاً، ولكن بشكل مبهم، بالتفاوض على صفقة كبرى للمنطقة التي تجاوز الصراع فيها فلسطين المتنازع عليها منذ وقت طويل، حيث امتد أوار الصراع للدول المجاورة أو ربما للمنطقة بأسرها، وهذا «الفضاء السياسي» الجديد، الذي خلقه ترامب، يعد جذاباً من منظور إسرائيلي، وذلك لأن إسرائيل ستضمن احتفاظها بأغلبية يهودية مريحة إذا تم تنفيذ حل الدولة الواحدة، إذا كانت هذه الدولة قد أقامتها إسرائيل قسراً.

وفي الوقت نفسه فإن احتمال نقل السكان سيسمح لإسرائيل بتحقيق درجة أعلى من النقاء العرقي، وهي سمة من سمات الوهم الصهيوني المهيمن عليهم منذ فترة طويلة، حتى قبل الاعتراف بإسرائيل نفسها كدولة.

الجزء الملتهب من هذه البيئة السياسية الجديدة يتمثل في التوسع المتسارع لشبكة المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية، التي تتمدد في فلسطين المحتلة، فعلى الرغم من الإدانة بالإجماع تقريباً لهذه المستوطنات في قرار مجلس الأمن رقم 2334 في ديسمبر الماضي، ردت الحكومة الإسرائيلية بإعلانها، في تحدٍّ سافر، السماح ببناء آلاف الوحدات الاستيطانية الأخرى، وأيدت خططاً لإقامة مستوطنة جديدة تماماً، كما اتخذ الكنيست مبادرة استفزازية بإصدار قانون يقنن «البؤر الاستيطانية»، 50 منها موزعة في جميع أنحاء الضفة الغربية، في انتهاك مباشر للقانون الإسرائيلي.

ومن المحتمل أن المحكمة العليا الإسرائيلية ستنظر في هذه التحديات القضائية المتوقعة لهذا التحرك الأخير، وستبطل في نهاية المطاف هذا القانون الصادر عن الكنيست، ولكن حتى لو حدث ذلك، فإن تمرير مثل هذا القانون من قبل الكنيست يبعث برسالة واضحة ذات عزم من حديد، بأن القوى السياسية التي توجه حالياً السياسة الإسرائيلية، لن تسمح أبداً بإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.

وفي مثل هذه الظروف يصبح لزاماً على السلطة الفلسطينية أن تبين للعالم أنها لاتزال على قيد الحياة، وأن لديها حالياً عدداً قليلاً من الطرق للقيام بذلك. وبالنظر إلى هذه الحقائق، فمن السهل على السلطة الفلسطينية أن تضيء سماء الوعي العام بمحنة الفلسطينيين، وأن تطالب بقوة بالعدالة في المحكمة الجنائية الدولية. وبعد كل شيء هناك توافق واسع على الساحة العالمية بأن جميع المستوطنات، وليس فقط البؤر الاستيطانية، تشكل انتهاكاً للمادة 49 (6) من اتفاقية جنيف الرابعة. وهذه المستوطنات ظلت طوال عقود عقبة رئيسة في البحث عن حل دبلوماسي مرضٍ للنزاع. وبالطبع، سيكون من السذاجة أن نتوقع بأن إسرائيل ستمتثل لحكم سلبي من المحكمة الجنائية الدولية، أو التعاون في مثل هذه الدعوى، وإنما ستتحدى اختصاص المحكمة نفسها، الا أن أي نتيجة إيجابية ستكون ذات قيمة كبيرة للفلسطينيين، كما أن مثل هذا الحكم سيضع إسرائيل في وضع غير مستحب بالنسبة إلى الأمم المتحدة والقانون الدولي، والرأي العام العالمي، وسيساعد مما لا شك فيه على تشجيع مزيد من تطور حركة التضامن العالمية مع الشعب الفلسطيني.

وعلى الرغم من هذه الظروف التي تجعل من المحكمة الجنائية الدولية خياراً جذاباً، فإن قرار السلطة الفلسطينية لسلوك هذا السبيل، هو أبعد ما يكون عن الوضوح. ويرفض وزير الخارجية السابق للسلطة الفلسطينية، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، ناصر القدوة، على نحو فعال، خيار المحكمة الجنائية الدولية، لأنه حسب وصفه، طريق «معقد»، من دون أن يدلي بأي تفسير آخر، ما يترك انطباعاً بأن تكاليف اتخاذ مثل هذه الخطوة عالية جداً. ومع ذلك، هناك إشارات متضاربة تنطلق من دوائر القيادة الفلسطينية. على سبيل المثال، الأمين العام لمنظمة التحرير الفلسطينية، صائب عريقات، على النقيض من القدوة، يصر على أن تتولى المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في «نظام المستوطنات الاستعماري».

ويبدو من المفيد أن نتكهن بسبب هذا التناقض بين القادة الفلسطينيين، فبعد كل شيء، نجد أن القانون الدولي والرأي العام العالمي، وحتى معظم الحكومات الأوروبية، جميعها تدعم المطالب الفلسطينية في ما يتعلق بالمستوطنات. وتظل إسرائيل هي التي تظهر تحدياً أكثر من أي وقت مضى، ويبدو في جميع تحركاتها أنها تنوي المزيد من التوسع، وربما تتجه اسرائيل الى الإعلان من جانب واحد قريباً نهاية للصراع، وهي الخطوة التي تعتقد واشنطن أنها عرجاء مؤقتاً، لكنها في النهاية مقبولة. وفي صلب هذا النقاش الذي يدور حول اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية، هناك سؤال صعب للغاية هو ما إذا كانت تقلبات الجغرافيا السياسية تخدم مصالح الشعب الفلسطيني في هذا الوقت بالذات.

تويتر