على الرغم من نجاحه في تحقيق تحالفات واتفاقات دولية

سورية ستبقى اللطخة السوداء في إرث أوباما

صورة

يبدو أن مغادرة الرئيس الأميركي باراك أوباما المقررة بعد نحو أسبوعين للبيت الأبيض، جعلت بعض الأميركيين في مزاج رثائي. وعلى الرغم من أن معدل مؤيديه من الأميركيين يبلغ الآن 48% وهي النسبة الأقل من بين الرؤساء الأميركيين الخمسة السابقين، إلا أنه لطالما كان محبوباً من قبل الأميركيين. وكما اعتبر كثيرون الرئيس السابق جورج بوش الابن، قبل نهاية فترة حكمه أنه أسوأ رؤساء الولايات المتحدة قاطبة، فإن العديد من الأميركيين يستعدون الآن لتكريس أوباما باعتباره واحداً من أعظم الرؤساء الأميركيين في كل تاريخ البلاد، أو ربما كان الأمر كذلك إلى حين سقوط مدينة حلب السورية.

القتل الجماعي لا يؤثر في سمعة الرؤساء

من المحزن حقاً أنه لن يتم الحكم على الرئيس الأميركي باراك أوباما استناداً إلى فشله في وقف المقتلة في سورية. ومما يثير ضيق الجميع، أن التقاعس في وجه منع أعمال الإبادة أو القتل الجماعي، أو منع وقوع كارثة إنسانية لم يسبب أي ضرر كبير للرؤساء بالحسابات التاريخية. وصحيح أنه إثر حدوث المحرقة النازية شعر الأميركيون بمعاناة الشعوب الأخرى وبمسؤوليتهم كمواطني أقوى دولة في العالم لفعل أي شيء لتخفيف تلك المعاناة. وبالنظر من هذه الزاوية نجد أنه حتى الرئيس السابق فرانكلين روزفلت الذي عرف بـ«قربه من مرتبة القديس» إلا انه لم يفعل الكثير، حسب ما علمه المؤرخون في ما بعد وطرحوا تساؤلات بشأن عجزه عن مساعدة اللاجئين اليهود في أوروبا. وأخيراً، عمل مؤرخون وصحافيون على لفت انتباه المؤرخين الى أعمال قتل جماعية أخرى. ويقول أنصار حقوق الإنسان، إن الدول القوية يقع على عاتقها منع مثل هذه الأعمال الوحشية. ولكن منذ حرب العراق باتت سياسة التدخل الأميركي في انحسار متواصل إلى الآن. وربما يحصل أوباما على بعض السلوان من حقيقة أن سمعة الرؤساء لا تتأثر بصورة نمطية بتقاعسهم في وجه أعمال الإبادة الجماعية.

ومنذ اندلاع الانتفاضة السورية في عام 2011 اعتبر الأميركيون المذبحة الجارية في هذا البلد كارثة إنسانية. وبالنسبة لأوباما، وعند التأمل في إرثه الذي سيخلفه بعد خروجه من البيت الأبيض، فإن أعمال القتل البشعة وتدمير سورية، واستخدام الغاز السام والقنابل المدمرة، طرحت السؤال القديم حول كيف سيكون حكم الأجيال المقبلة على إدارة أوباما؟ وذكرت كتب التاريخ كيف تعامل رؤساء أميركا مع العديد من المشكلات في العالم.

ومع وصول إدارة أوباما إلى أيامها الأخيرة، والتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في سورية الذي لم تلعب فيه واشنطن أي دور، بات من الواضح أن فقدان الأرواح، والأزمة الإنسانية في هذا البلد يمثلان البداية للعديد من النتائج التي يتعين على المؤرخين أن يقيموها، عندما يتساءلون كيف اختارت الولايات المتحدة في ظل إدارة أوباما التعامل أو عدم التعامل مع الحرب الأهلية في سورية. وإذا مال المؤرخون إلى منح الرؤساء نوعاً من السماح على فشلهم لعدم منع حدوث مجزرة، فإنهم لن يكونوا بهذا القدر من السخاء عند تقييم خسارة النفوذ الأميركي في العالم.

وتبدو هذه الخسارة كبيرة جداً، إذ إن الدعم الوحشي الذي قدمه الروس في ديسمبر الماضي للجيش السوري في حلب أدى إلى إخراج المعارضة من المدينة، الأمر الذي طرح سؤالاً عما إذا كان ذلك الهجوم يشكل نهاية المعارضة. وبدا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو صاحب الكلمة الفصل في ما يحدث في حلب.

ولسنوات عدة أصر أوباما على أن سورية لا تشكل أهمية استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، ولكن هذا الحكم لا يشكل ابتعاداً عن التفكير الجيوستراتيجي فقط وإنما مقامرة خطرة جداً، وإذا كان أوباما على خطأ فإن حساباته ستنطوي على آثار سيئة كبيرة. وإذا تمكنت روسيا من إخراج الولايات المتحدة من المنطقة، فإن ذلك سيؤثر في وصولها إلى منابع النفط ومحاربتها للإرهاب وقدرتها على طمأنة إسرائيل على أمنها وعلاقاتها مع دول مثل إيران وتركيا والسعودية.

والنتيجة الثانية لسياسة أوباما في سورية هي حدوث أزمة اللاجئين في أوروبا، حيث حمل بعضهم قيماً ثقافية متشددة. ولكن موجة جديدة من اللاجئين السوريين نجمت عن الحرب الأهلية في سورية، أدت إلى حدوث أزمة كبيرة في دول مثل ألمانيا وتركيا وفرنسا، إضافة إلى بروز اليمين المتشدد في القارة العجوز. ويمكن أن يُعزى معظم الحركات الشعبوية واليمينية المتطرفة في العالم إلى تفاقم أزمة اللاجئين الناجمة عن الحرب الأهلية في سورية.

والنتيجة الثالثة لسياسة أوباما هي ظهور تنظيم «داعش» الذي أصبح أكثر تطرفاً من تنظيم القاعدة الذي انبثق عنه. ومن الواضح أن إدارة أوباما لم تنشِئ «داعش» كما يقول البعض، ولكنها عجزت عن محاربة الظروف التي أدت إلى ظهوره. وأما النتيجة الرابعة فإن الفشل في احتواء «داعش» بصورة مبكرة أجبر الولايات المتحدة على تغيير استراتيجيتها في سورية، حيث غيرت الإدارة تركيزها من المشكلة السورية إلى العمل على تدمير «داعش»، الأمر الذي جعل من المستحيل على أوباما الوفاء بتعهداته التي قدمها في أغسطس2011 بأن الرئيس السوري بشار الأسد يجب أن يرحل.

وأما النتيجة الخامسة، فإن هذه السياسة شجعت الأسد وغيره على تجاهل أميركا، ففي عام 2012 أعلن أوباما أنه اذا استخدم الأسد أسلحة كيماوية فإنه سيكون قد تجاوز الخط الأحمر وعندها يتعين على الأميركيين التدخل عسكرياً. وبعد مرور عام استخدمت الحكومة السورية السلاح الكيماوي في غوطة دمشق ولكن أوباما لم يفعل شيئاً، واكتفى بالاقتراح الروسي الذي يقضي بنزع الأسلحة الكيماوية من سورية.

وأظهر الرئيس أوباما أنه يحتقر مفهوم «الصدقية»، وهي فكرة تفيد بأن واشنطن يجب أن تتصرف استناداً إلى التزاماتها. وهذا ما دفع أعداء أميركا بمن فيهم روسيا إلى اختبار أميركا من جديد، حيث احتل بوتين عام 2014 شبه جزيرة القرم ودعم الاضطرابات في أوكرانيا. والأكثر من ذلك أنه ثمة أدلة قوية ظهرت أخيراً على أن الرئيس الروسي تلاعب بصورة مباشرة في البريد الإلكتروني للحزب الديمقراطي كي تكون نتائج الانتخابات لمصلحة الجمهوري دونالد ترامب.

ومن الصعب توقع كيف ستؤثر كل هذه الأحداث في سياسة أوباما على المدى البعيد. وليس بيد المراقبين سوى التأمل، مدركين دائماً أننا لن نستطيع معرفة أي العناصر في سياسة أوباما يمكن أن يركز عليها مؤرخو المستقبل، وأي العناصر الأخرى التي سيتجاهلونها، والتي سيقدرونها، وتلك التي سيحتقرونها.

ولكن أوباما يدرك تماماً أن الرؤساء يتأثرون اذا كانت نتائج الحرب الأميركية سيئة. ويمكن أن يذكر الرئيس السابق ليندون جونسون باعتباره أعظم الرؤساء الأميركيين لولا عناده في مواصلة الحرب الفيتنامية على الرغم من إدراكه تماماً أنها خاسرة، ولذلك فقد خرج من دائرة العظماء. وأما غزو الرئيس جورج بوش الابن للعراق وعلى الرغم من كل الكوارث التي انطوت عليها هذه الحرب إلا أنها تظل النقطة الأكثر إشراقاً في رئاسته، حتى أنها تتفوق على تجاوبه الناجح جداً مع حادثة 11 سبتمبر.

وفي حقيقة الأمر فإن إرث أوباما في سورية لن يكون العامل الوحيد الذي سيكون وراء كيفية نظرة الأجيال المقبلة إلى سياسته الخارجية، وإنما جهوده المتفاوتة لتقليص حالة الحرب في كل من العراق وأفغانستان، والاتفاق النووي المثير للجدل مع إيران وانفتاحه على كوبا، وإضعاف القاعدة والمجموعات الإرهابية الأخرى والكفاح من أجل تنشيط عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إضافة إلى بناء تحالفات في آسيا تتسم بأهمية أكبر على المدى البعيد من المغامرة في سورية. ولكن لا يمكن التهرب من الاستنتاج بأن السياسة الخارجية لبوش الابن التي اتسمت بالعنف والقوة ستجعل النظرة إلى أوباما على أنه بالغ في تجنب المواجهات، ونتيجة هذا الأسلوب المتردد والمتخوف فشل في تعزيز نفوذ بلاده وموقعها، وكذلك قدرتها في تحقيق الهدف الأسمى المتمثل في التوصل إلى عالم أكثر أماناً وسلاماً.

تويتر