«داعش» يغيّر جغرافية مناطق ويمحو تاريخها

لاجئون توزّعوا في المنافي.. وفقدوا الأهل والأوطان (3-3)

صورة

أفردت صحيفة «نيويورك تايمز» عدداً من صفحاتها، لنشر موضوع موسّع، اعده الكاتب الصحافي سكوت آندرسون، يروي أسباب التفكك الذي اعترى العالم العربي، جراء غزو العراق في 2003، والذي أدى إلى الكارثة التي فتّتت العالم العربي، ما أدى بالتالي إلى صعود تنظيم «داعش» الإرهابي، وتفاقم أزمة اللاجئين عالمياً. وذكرت الصحيفة أن الرقعة الجغرافية لهذه الكارثة متسعة وأسبابها كثيرة، إلا أن عواقبها أفرزت حروباً أهلية، وعدم استقرار في جميع أنحاء العالم. وتناولت الصحيفة خمس مناطق عربية، تكشفت فيها مآسي «الربيع العربي» بشكل واضح، هي: مصر وليبيا وسورية والعراق وكردستان العراق.


وقاص:

في 18 يونيو، وفي اليوم الأول من رمضان ودّع وقاص رفاقه في تنظيم «داعش» الإرهابي، قبل مغادرتهم إلى الحياة المدنية، وللوصول إلى كروك التي تبعد 60 ميلاً إلى الشمال من كركوك، اتجه عبر المناطق التي يسيطر عليها «داعش» في العراق وسورية، ومن ثم اتجه إلى تركيا، قبل أن يعود عبر كردستان العراق، ومن ثم إلى كركوك، وهي دائرة مكتملة تقريباً بمسافة تصل الى نحو 500 ميل.

ومنذ احتلال «داعش» لشرق سورية بداية عام 2014، كانت هناك اتهامات لتركيا بأنها سهلت عبور مقاتلي التنظيم عبرها إلى كل من سورية والعراق. وأكد ذلك العديد من مقاتلي «داعش» الذين التقيت بهم. وقال وقاص إن حرس الحدود الأتراك كانوا يسهلون حركة انتقال التنظيم.

وبعد أسبوعين على مغادرة وقاص التنظيم، كان قد وصل الى كركوك، وبعد فترة قصيرة التقى برفيق له سابق في التنظيم، هو شقيقه محمد. وفي البداية بدت حياة الأخوين مريحة فقد عاشا في شقة صغيرة في حي يقطنه الكثير من مقاتلي «داعش» السابقين، وخلال أسبوع تمكن الأخوان من إيجاد عمل في موقع بناء مجاور، وفي تلك اللحظة قرر وقاص البقاء هناك حتى يجمع مبلغاً جيداً من المال، ومن ثم يعود إلى منزله متى سمحت له الظروف بذلك، ويفتح متجره الصغير. ولكن الأمور لم تجرِ حسب ما اشتهاه وقاص، ففي 7 سبتمبر 2015 وقفت سيارة سوداء إلى جانب وقاص، وهو في أحد شوارع كركوك ونزل منها رجال أمن وقاموا باعتقاله.

ماجد إبراهيم:

• على الرغم من جميع الأعذار التي قدمها السياسيون والجنرالات الأكراد، فإن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها تبقى أن سنجار ببساطة ما كان لها أن تدمّر بيد «داعش» لو أن سكانها كانت أسماؤهم إما برزاني أو طالباني.

• لاجئون سوريون في تركيا بانتظار السفر إلى اليونان.


الفصل ليس سهلاً

لمدة 25 عاماً، كانت كردستان العراق كنظام شبه ديمقراطي مستقر، على جزء من العراق بالاسم فقط. وربما أن تطبيق هذا النموذج على بقية العراق يمكن أن ينجم عنه تشكيل دولة من ثلاثة أجزاء بدلاً من جزأين، أي للسنة والشيعة أيضاً، كل على حدة. واذا نجح النموذج يمكن تطبيقه على ليبيا وسورية. ولكن حتى المؤيدين لهذه الفكرة يعترفون بأن مثل هذا الفصل لن يكون سهلاً، إذ ما الذي يمكن عمله مع مدن مختلطة بصورة عشوائية مثل بغداد وحلب. في العراق ثمة العديد من القبائل مقسمة إلى شيعة وسنة، وفي حقيقة الأمر فإن الدلائل التاريخية تشير إلى أن مثل هذه الحلول يمكن أن تنطوي على نتائج قاتلة، مثل ما حدث في تقسيم الهند عام 1947.

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2016/08/527657.jpg

لاجئون سوريون وعراقيون يعبرون الحدود بين صربيا ومقدونيا. إي.بي.إيه

في مساء 23 نوفمبر 2015 زرت ماجد إبراهيم في شقته الصغيرة في ضواحي مدينة دريسدن الألمانية، التي قدمتها له إدارة الضمان الاجتماعي المحلية. وكان يقطن فيها مع صديقه الحمصي أمجد وستة من اللاجئين الاخرين، وكانوا جميعاً بانتظار الحصول على إقامة هناك في ألمانيا.

وقال لي ماجد إنه بعد وصوله إلى اليونان ذهب إلى جنوب المانيا، عبر رحلة طويلة في أوروبا الشرقية، وكان يرغب في الذهاب إلى السويد، ولكن الأمور سارت بصورة مختلفة، إلى أن انتهى به المطاف إلى دريسدن. وكلاجئ قادم من حمص كان ينطوي وصوله إلى دريسدن على تناقضات معينة، إذ إن هذه المدينة التي تعرضت لتدمير شبه كامل من قبل الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، كانت أيضاً مركزاً لحركة مناهضة للهجرة انتشرت في شتى أنحاء المانيا.

وتحدّث ماجد مراراً عن نيته العودة الى سورية، وهي النية التي فسرت عدم قبوله نشر صورته على الملأ. وسألته متى يتوقع أن يتمكن من العودة، فأجاب «على الأقل بعد 10 سنوات. ثمة مثل عندنا في سورية يقول إن الدم يولد الدم، إذ إن كل من فقد أحد أفراد عائلته سيقرر الانتقام».

خلود الزيدي:

بحلول نهاية عام 2015 أدركت خلود الزيدي أنه لا مستقبل لعائلتها القادمة من العراق خلال بقائها في الأردن. وقررت أن تقتفي أثر مئات آلاف اللاجئين المتجهين إلى أوروبا عبر تركيا. ولكن صحة شقيقها علي ليست على ما يرام، وربما لن يتحمل مثل هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر، فقررت أن تبقي معه شقيقتها سحر، وتسافر هي إلى أوروبا مع شقيقتها تميم. وفي 4 ديسمبر استقلت خلود الطائرة إلى إسطنبول، ومن هناك دفعت لأحد مهربي اللاجئين 2000 يورو لتحجز لنفسها ولشقيقتها مكاناً على قارب المهرب. وفي 11 ديسمبر بدأت الرحلة وكانت خلود وتميم تمسكان بقوة بالقارب المطاطي الذي تركبان فيه، وأحصت خلود 30 راكباً على ظهر المركب، وليس ثمانية أو 10حسب ما قيل لها، واستمرت الرحلة ثلاث ساعات إلى حين الوصول الى جزيرة ساموس اليونانية. ولكن الأمور لم تجرِ بمثل هذه السلاسة، إذ إن قائد المركب أخطأ طريقه واصطدم بصخرة جعلت المركب يغرق ببطء، ولكن لحسن الحظ فإن جميع الركاب يلبسون سترات نجاة. وكانت خلود تنظر الى شقيقتها الكبرى تميم، التي كانت في حالة شبه شلل من الخوف، وغير قادرة على القيام بأي شيء. وتقول خلود: «صرختُ عليها كي تقفز، لأن الموج كان عالياً جداً، وكان يمكن أن يجرفنا بقوة نحو الصخرة، ولكنها لم تكن تتحرك، واعتقدت أنها ستموت، ولكني قررت مساعدتها، لأن قدرنا سيكون واحداً».

وأمسكت خلود بيد شقيقتها وسحبتها بعيداً عن القارب، الذي كان يغرق، باتجاه الصخرة، وساعد على ذلك ركوب الموج المتتابع، فوصلتا إلى الصخرة، وعلى الرغم من الألم الذي أصاب ساق خلود، إلا أنها كانت قد وصلت إلى البر، وانضمتا إلى بقية اللاجئين الذين كانوا يبحثون عن ملاذ. وكان الأسبوعان التاليان عبارة عن انتظار وترقب وتوتر بالنسبة للفتاتين العراقيتين. وبعد تسجيل الفتاتين لدى سلطات المهاجرين اليونانية، سمح لخلود وشقيقتها بركوب عبارة إلى البر اليوناني، وأقامتا عند بعض الأصدقاء.

وفي 22 ديسمبر، وبعد ركوب باصات وقطارات عدة، عبرت خلود وشقيقتها تميم خمسة حدود أوروبية قبل الوصول إلى جنوب ألمانيا، حيث خانهما الحظ في تلك اللحظة، وتم اعتقالهما بعد عبور الحدود الألمانية، واحتُجزتا حتى هبوط الليل، ومن ثم تم ارجاعهما إلى النمسا، وطُلب منهما الذهاب إلى مركز تجميع اللاجئين الذي كان مكتظاً ولم يُسمح لهما بدخوله، وبقيتا خارج المركز، حيث بدأ هطول الثلج في تلك اللحظة.

وحلت ساعة الفرج للفتاتين عندما ذكرت خلود ما تتعرض له مع شقيقتها، على «فيس بوك»، فجاءهما الرد من عضو برلماني نمساوي من حزب الخضر، الذي بدوره دبّر لهما أمر الإقامة عند إحدى العائلات في النمسا. وعندها أرسلت خلود رسالة الكترونية إلى إحدى صديقاتها قالت فيها «اليوم هو اليوم الأول الذي نشعر فيه بالراحة والأمان».

وقاص:

في ديسمبر 2015 واجه وقاص تهمة الإرهاب في مخفر صغير للشرطة في قرية تبعد 10 أميال عن كركوك. وكان محجوزاً مع 40 آخرين متهمين بالإرهاب في غرفة صغيرة. وبعد مرور ثلاثة أشهر على اعتقاله في أحد شوارع كركوك، لم يكن وقاص يدري أين هو.

وكان قد اعترف بعد اعتقاله بأنه مقاتل سابق في تنظيم «داعش»، وأنه أعدم ستة أشخاص حسب أوامر تلقاها من قادته، وأبلغ عن شقيقه محمد الذي اعتقلته الشرطة الكردية بعد نحو شهر. ولكن تم حبسه في مكان آخر بعيداً عن وقاص، حيث لا يستطيعان التواصل. وخلال مقابلة أجريتها مع وقاص في السجن، قال إنه ارتكب أخطاءً كثيرة، وإنه يريد الاعتراف بها أمامهم، قبل أن يعترف بها أمام الله، وأضاف «لو كان لي الفرصة لما التحقت بـ(داعش). لقد رأيت الأعمال البشعة التي ارتكبوها، وأدركت انهم ليسوا مسلمين حقيقيين»، وقال إنه يدرك أنه سيمضي بقية عمره في السجن.

وعندما سألت عما اذا كانت هناك أية فرصة للعفو عن وقاص، بالنظر إلى أنه ساعد في الكشف عن مقاتلين آخرين من «داعش»، أجاب ضابط الشرطة الكردي بالنفي، أو يمكن عقد صفقة لينال عقوبة مخففة؟ إلا أن الضابط أجاب بالنفي ايضاً، واستدرك قائلاً: «لو كان من كبار قادة (داعش) لربما يحدث هذا، ولكنه شخص غير معروف وفقير، ولذلك ليس لديه أي فرصة للنجاة».

أزار ميرخان:

توقف أزار، على حين غرة، أمام قرية عربية كانت تبدو فقيرة ومعدمة. وكان على اليسار مجموعة من البيوت الطينية، وعلى اليمين ثمة أربعة أو خمسة بيوت زراعية تقبع على سطح التلة. وقال: «قبل أسبوعين كان (داعش) هنا، وأتمنى إحضار جرافة ومستشار إسرائيلي كي أزيل هذه القرية عن الوجود». وكان مزاج أزار يبدو غير طبيعي، لكنه ازداد سوءاً عندما وصلنا إلى سنجار، التي كان تعداد سكانها نحو 100 ألف نسمة قبل أن يغزوها «داعش»، ولكنها اصبحت الان مدمرة بصورة شبه كاملة، إلا من بعض البيوت التي كتب عليها عبارة «بيوت عربية».

وبعد ذلك عدنا إلى وسط سنجار، واتجه ازار الى مبنى بلدية المدينة، وهو أحد المباني التي لايزال من الممكن السكن فيها، وطلب من أحد كبار المسؤولين في البلدية أن يتبعه إلى شرفة المبنى، وهناك تحدثا لمدة ساعة من الزمن، وبعد ذلك اعتذر مني لأنه أطال مع الرجل، وبعد ذلك قال لي: «لقد أبلغته أنه يجب تدمير منازل العرب هنا في هذه المدينة. ولكنه تردد، وقال إنه من الأفضل أن نعطيها لليزيديين. ولكني قلت له «لا، لأن بعض هؤلاء العرب يمكن أن يأتي بوثائق ملكية بيته ويطالب به، من الأفضل تدميرها كي لا يبقى أي شيء لهم هنا»، وعندما سألته عما اذا كان ذلك المسؤول الذي تكلمت معه، يمكن ان يطبق الخطة التي طلبها منه، فقال: «لقد وعدني بذلك، لقد جعلته يعدني بذلك».

ولمدة 25 عاماً، كانت كردستان العراق كنظام شبه ديمقراطي مستقر، على جزء من العراق بالاسم فقط. وربما أن تطبيق هذا النموذج على بقية العراق يمكن أن ينجم عنه تشكيل دولة من ثلاثة أجزاء بدلاً من جزأين، أي للسنة والشيعة ايضاً، كل على حدة. واذا نجح النموذج يمكن تطبيقه على ليبيا وسورية. ولكن حتى المؤيدين لهذه الفكرة يعترفون بأن مثل هذا الفصل لن يكون سهلاً، إذ ما الذي يمكن عمله مع مدن مختلطة بصورة عشوائية، مثل بغداد وحلب. في العراق ثمة العديد من القبائل مقسمة إلى شيعة وسنة، وفي حقيقة الأمر فإن الدلائل التاريخية تشير إلى أن مثل هذه الحلول يمكن أن تنطوي على نتائج قاتلة، مثل ما حدث في تقسيم الهند عام 1947.

ونظراً إلى أن موجودون خارج منطقة سلطة كردستان، فقد تُركوا يدافعون عن أنفسهم. وعلى الرغم من جميع الأعذار التي قدمها السياسيون والجنرالات الأكراد، فإن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها تبقى أن سنجار ببساطة ما كان لها أن تدمر بيد «داعش» لو أن سكانها كانت أسماؤهم إما برزاني أو طالباني.

الخاتمة

بعد 16 شهراً من السفر في الشرق الأوسط اكتشفت أنه من المستحيل توقع ما يمكن أن يحدث لاحقاً، ناهيك عن اختصار المعنى الحقيقي لما يحدث. وفي الأماكن التي زرتها في السابق، كان الحال يبدو أكثر سوءاً مما كان عليه، إذ إن الحرب في سورية قتلت مزيداً من عشرات الآلاف، وما زاد الطين بلة أن ليبيا تتجه نحو الإفلاس. واذا كان ثمة بقعة مضيئة في الخارطة فإنها الائتلاف الدولي الصلب والملتزم، الذي يواصل العمل باتجاه الاجهاز على تنظيم «داعش». وتذكرت ما قاله لي ماجد إبراهيم ذات مرة «(داعش) ليس تنظيماً وإنما فكرة»، فاذا تم القضاء على مقاتليها، فإن الظروف التي ساعدت على ظهورها، ستبقى على شكل جيل من الشبان الذين لا مستقبل لهم، مثل وقاص حسن الذي وجد الهدف في القوة والانتماء عن طريق حمل السلاح، وباختصار لن يتغير شيء نحو الأفضل قريباً.

وعلى مستوى أكثر فلسفية، فإن هذه الرحلة أسهمت في تذكيري من جديد بمدى الحساسية الرهيبة لنسيج الحضارة، وبالتأهب المطلوب لحمايتها، وبالعمل البطيء والمرهق لإصلاحها اذا تعرضت للخراب، وهذا درس علينا أن نتعلمه مراراً وتكراراً.

ولكن أجد العزاء في الطاقة الاستثنائية للفرد، التي تجلب التغيير، ليس هناك من يمثل هذه الطاقة من الذين التقيت بهم أكثر من خلود الزيدي، حيث تمكنت من إنقاذ ما استطاعت من عائلتها. ولكن التناقض الغريب هنا ان أمثال خلود الذين يستطيعون إصلاح هذه البلاد المدمرة، هم ايضاً الذين غادروا بلادهم بحثاً عن الحياة في أماكن أخرى.

وفي غضون كتابة هذه السطور يعمل العراقيون وببطء على استعادة مدنهم من «داعش»، استعداداً للمعركة الكبيرة لاستعادة الموصل.

وفي ليبيا يواصل مجدي المنقوش دراسة الهندسة، ولكن بالنظر إلى الفوضى التي تنتشر في بلاده فقد لجأ إلى فكرة غريبة، تتمثل في استعادة النظام الملكي الذي أطاح به العقيد القذافي في عام 1969. وقال: «لن يحل هذا كل مشكلاتنا، ولكن على الأقل بوجود الملك سنكون دولة».

وفي دريسدن حصل ابراهيم على الإقامة كلاجئ، الأمر الذي يمكنه من البقاء في ألمانيا ثلاث سنوات مقبلة، وهو يتعلم اللغة الالمانية حالياً، ويأمل في العودة إلى كليته الخريف المقبل، للحصول على الماجستير في ادارة الفنادق. وفي النمسا، تواصل خلود وشقيقتها تميم العيش مع عائلة نمساوية، حيث حصلتا، أخيراً، على منح لدراسة ادارة الثقافات في الجامعة المحلية في بداية سبتمبر. وكانت عزيزة والدة خلود التي لم تغادر العراق، والتي لم تشاهدها خلود منذ 11 عاماً، قد توفيت في الكوت. وكان ردّ خلود على ذلك نموذجياً لما تقوم به شابة شجاعة.

تويتر