اللاعبون المحليون قاموا بأدوار حيوية لتنفيذها

«سايكس بيكو» وضعتها القــــــوى الغربية من أجل مصالحها في المشـرق

صورة

تطاحنت الأحداث مع بعضها بصورة مرعبة في الشرق الأوسط، وسقطت أعداد كبيرة من الضحايا، التي لم تذكر في كتب التاريخ. وهناك الكثير من الحكايات التي نرويها منذ زمن بعيد حول المنطقة. ومن هذه القصص الرغبة الجامحة في إنشاء الدولة الأمة. وبعبارة أخرى، بناء سياسي يفضي إلى دولة، ومؤسسات وحدود معترف بها. وكالسراب في الصحارى تبخرت الدولة الأمة في الشرق الأوسط أمام أعيننا، وتركتنا أمام تحدي حقيقة قاسية ودموية.

وبفضل مكر التاريخ، يمر في هذا الشهر الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس بيكو، التي يُعزى لها الفضل باعتبارها مصدر القصص التي ذكرت سابقاً. وكانت الدولة الأمة، التي لم تعد لا دولة ولا أمة، كما هي الحال في العراق وسورية ولبنان، نتاج عمل دبلوماسيَّين؛ هما البريطاني مارك سايكس والفرنسي جورج بيكو، اللذين شكلا ثنائياً متناقضاً، فقد قام سايكس الأرستقراطي الذكي لكن الكسول، بنشر قصص ترحاله عبر الإمبراطورية العثمانية، قبل أن يدخل السياسة. ومن ناحية أخرى كان بيكو شخصاً مميزاً من عائلة استعمارية محترفة، مكرسة نفسها لـ«مهمة فرنسا الحضارية»، من أجل الشعوب المتخلفة في العالم. وقام الرجلان برسم خريطة للمنطقة خلف الكواليس، تعكس الطموحات الإمبريالية لدولتيهما.

أوهام الخرائط

لم تكن أوهام الخرائط جديدة، فمنذ الحملات الصليبية في القرون الوسطى وحتى عصر التنوير، كان الغرب يرسم خرائط للشرق استنادا إلى رغباته وأحلامه. وكان الكاتب الفلسطيني الراحل، إدوارد سعيد، قد تناول موضوع «الجغرافية التخيلية» في كتابه «الاستشراق»، وكشف زيف تخيل الغرب للشرق الأوسط. ويقول سعيد إنها وجهة نظر تسمح لنا «بإدارة الشرق وحتى إنتاجه أيضاً»، وعلى الرغم من أن كلامه يفتقر إلى الوضوح، إلا أنه أكد عادة غربية تتميز بآثار قاتلة مفادها: رسم الحدود في أماكن لم تكن موجودة فيها من قبل، وتحديد أماكن أخرى بأسماء لم يسمع بها أحد من قبل.

وظهرت كتابات كثيرة حول النتائج التاريخية للحواشي المكتوبة على الخريطة، وفي الزاوية اليمنى السفلية، وقّع كل من سايكس وبيكو اسميهما. وهذه الخريطة عبارة عن قطعة واحدة من الورق، تغطيها شبكة من الخطوط المتواصلة والمنقطة تضم المناطق البريطانية والفرنسية، وتحملت عبئاً هائلاً لما نجم عنها في ما بعد. وكل شيء حدث في الشرق الأوسط تقريباً تم إرجاع أسبابه إلى واضعَي هذه الخريطة. وكما هي الحال بالنسبة لأحداث 11سبتمبر، أو معسكرات الاعتقال النازية، أصبح الثنائي «سايكس ـ بيكو» عبارة شريرة لوصف الأحداث التاريخية في العالم.

ولكن معنى هذه الخريطة، أو حتى أي خريطة، يعد أكثر عمقاً مما نعتقد. وبالطبع فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن الخرائط هي انعكاس للطبيعة، وتعبيراً صادقاً عن تضاريس الأرض وما تحويه من المياه، والجبال والسهول، بصورة محسوسة وكأنها صورة للجهاز الهضمي مأخوذة بجهاز الرنين المغناطيسي. ولكن الخريطة لا يمكن أن تكون مجرد خريطة فحسب. وخلال العقود القليلة الماضية، قام جيل جديد من الجغرافيين الجدد بإعادة توصيف مهنتهم. وهم يرون أن فن رسم الخرائط، على الرغم من استخدام الكمبيوتر وأجهزة أخرى في رسمها، إلا أنها تظل فناً أكثر منها علماً، إنها تعرض مخاوفنا وآمالنا وطموحاتنا الجماعية، وكذلك قلقنا على الورق أو على شاشة. وتكون شبكة الخطوط والألوان، والنقوش والأبعاد عبارة عن كلمات توضيحية ولكن بأساليب أخرى، وهي تمثيل خاص للواقع، مصمَّم لإقناع المشاهد أو إغرائه.

ولهذا السبب لم تعد الخرائط شفافة مثل رسومات الفنان الإيطالي غيوتو، أو أواني الزينة الإغريقية. إنها من أعمال الذكاء البشري، وهي تخفي بقدر ما تظهر، وتقدم الغموض فقط عندما نأمل أن نرى ما في أعماقها. ولكن الجغرافي البريطاني الراحل، بريان هارلي، يرى أن الخرائط تسيطر علينا من خلال منطقها الداخلي. وقال إنها تجعلنا «أسرى في بنيتها الفسيحة».

وهذا ينطوي على آثار هائلة في الأساليب التي نفكر بها في إرث «سايكس بيكو». وقال هارلي ذات مرة «بالنسبة للذين يملكون القوة في هذا العالم، سيزدادون قوة في الخريطة»، وعلى المستوى السطحي فإننا نرى هذا العرض للقوة في الخطوط التي وضعها سايكس وبيكو. وغامر الدبلوماسيان وعمدا إلى تقطيع أوصال جثة الإمبراطورية العثمانية استناداً إلى الأهداف الجيوسياسية لحكوماتهما، رافضّين في الوقت ذاته الحقائق الدينية والتاريخية على الأرض. وكما يلاحظ الكاتب والمؤرخ البريطاني، ديفيد فرمكين، في دراسته الحاسمة «سلام لوضع نهاية لكل أشكال السلام»، لم تكن فرنسا أقل انخداعاً من البريطانيين في قناعتهما بأن المسلمين يرغبون في أن يتم حكمهم من قبل فرنسا وبريطانيا.

ونتيجة لذلك، وبحلول عام 1915 عندما عقد سايكس لجنة حكومية لتحديد أهداف بريطانيا في الشرق الأوسط، كان ببساطة ينضم إلى تقليد طويل. وليس من المستغرب أن لجنته عملت على مسح الحدود، ووضعت أسماء أطلقها الحكام العثمانيون. ولدى لجوئهم إلى نصوص لاتينية وقراءتها لأوقات طويلة، بدا أعضاء لجنة سايكس كأنهم طلاب مدرسة، حيث عمدوا إلى دمج كلمات من اليونانية واللاتينية، وأطلقوا على المنطقة التي تم تشكلها حديثاً اسم «مسوبوتاميا» وهي سورية وفلسطين. ويبدو أن معركة بريطانيا في الشرق الأوسط خسرتها على مقاعد الدراسة في ايتون.

وتظهر خريطة «سايكس بيكو» وهماً آخر للخرائط، يتمثل في أن الخطوط والألوان التي وضعت على المناطق تبدو أنها لقمع قوة أو حرية الكائنات البشرية التي تعيش في هذه المناطق، التي تم ترسيمها في الخرائط. ومع ذلك فإن فرض خريطة «سايكس بيكو» ألهمت ظهور الحركات الوطنية، إضافة إلى مشاعر قومية عربية في المنطقة. وفي بداية عام 1917، حتى سايكس نفسه اعترف بأن خارطته كانت قطعة أثرية من عصر مضى.

وإضافة إلى ذلك، فإننا حتى الآن ميالون إلى الافتراض بأن التسوية في الشرق الأوسط عام 1922، التي كانت اتفاقية «سايكس بيكو» حجر الزاوية فيها، كانت عملاً قامت به القوى الغربية بصورة شاملة. فقد جئنا إلى المنطقة ورسمنا الخرائط وفتحنا المنطقة. إلا أن المؤرخين الجدد يرون عن قناعة كاملة أن اللاعبين المحليين في المنطقة، من المسلمين والمسيحيين والعرب والأتراك والفرس، جميعهم لعبوا أدواراً حيوية في الأحداث التي عصفت بالمنطقة. وبالطبع فإن الخرائط تم رسمها في الغرف السرية في باريس ولندن، بيد أن العمل على هذه الخرائط وتنفيذها قام بهما الأشخاص الذين ادعوا أنها تؤثر في حياتهم بصورة مباشرة.

وفي روايته «حلم صانع خرائط» يقوم الكاتب البريطاني، جيمس كوان، بإعادة تكوين حياة «فرا مورو»، وهو راهب من القرن الـ16، كي يرسم خريطة للعالم من دون أن يغادر صومعته. ولدى مشاهدته ما أنجزه من عمل، يدرك ما صنعه قائلاً «بدأت أرى صورة عن نفسي»، وعندما تنظر إلى خريطة الشرق الأوسط فإن البراعة لا تكمن في أن تلمح صور سايكس بيكو أو أحفادهما، وإنما في رؤية عدد لا متناهٍ من وجوه أولئك الذين سيظلون دائماً يقاومون تجريدات الخطوط والألوان.

روبرت زارتسكي - أستاذ التاريخ في جامعة هيوستن

تويتر