غلّب مصالحه الشخصية ولم يكترث بالفلسطينيين وقضيتهم

بلير فشل في أن يكون وسيـــطاً نزيهاً للسلام في المنطقة

صورة

ينوي مبعوث اللجنة الرباعية للسلام في الشرق الأوسط، توني بلير، ترك منصبه الشهر المقبل، ويبدو أن هناك عدد قليل ممن يأسفون على رحيله، لأنه لم يفعل الكثير بوصفه صانعاً للسلام، فضلاً عن أن إرثه الدموي من الحروب التي أججها في العراق وافغانستان بمعية حلفائه الأميركيين لا تزال نيرانها مستعرة. وقبل فترة طويلة من إقدامه على هذه الخطوة كان هناك جدل مستفيض ظل يدور حول صفقاته التجارية المربحة، التي كان يعقدها، والانشطة الاخرى المريبة، بما في ذلك صفقات مع قادة بعض الأنظمة الأكثر وحشية وفساداً في العالم، ويتساءل العديد من الناس هل كان دوره مبعوثاً للسلام في الشرق الأوسط، أم ساعياً لجني الثروات؟.

تناقضات في سياسة بلير

لم تحرز محادثات السلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين أي تقدم في عهد مبعوث اللجنة الرباعية للسلام في الشرق الأوسط، توني بلير. وعلى الرغم من زياراته المتكررة إلى المنطقة، لم يكن لبلير أي دور على الإطلاق في أي جهود للتوصل إلى اتفاق بين الطرفين. حتى المناطق التي ادعى بلير والجنة الرباعية الدولية، أنها احرزت تقدماً أثبتت عكس ذلك كما تعتقد شخصيات فلسطينية رفيعة المستوى.

وظل يصر على التدخل في العراق وسورية على الرغم من كونه مبعوثاً للسلام في الشرق الأوسط، كما يصر على ضرب نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، ويبدو أنه نسي أنه حاول منح الأسد لقب «فارس» عندما كان رئيسا للوزراء. وأخيراً لم يجد الشكر إلا من الشركات العسكرية الخاصة وتجار الأسلحة لانه السبب في الارباح التي ينعمون بها.

هذا السلوك الذي انتهجه بلير في عدم اكتراثه بالفلسطينيين وقضيتهم أغضب بالتأكيد القادة الفلسطينيين، فعلى سبيل المثال، وجهت وزيرة التعليم العالي السابقة في السلطة الفلسطينية، الدكتورة حنان عشراوي، انتقادا لاذعاً لبلير، لتقاعسه عن أداء المهام المنوطة به، فبدلاً من زيارته للقدس أسبوعاً واحداً كل شهر، كما يقضى الاتفاق، كان يأتي إلى هناك في وقت متأخر من مساء الاثنين من كل شهر ويذهب بحلول الخميس. ويقول مسؤول فلسطيني آخر «هو شخص لا طائل من ورائه» وكرر ذلك ثلاث مرات.

قبل وقت طويل من قراره بالتنحي من منصبه كمبعوث للسلام في الشرق الأوسط، تآكلت مصداقيته بسبب الأموال الطائلة التي جمعها من وراء مهمته هذه، فقد كان يتنقل عبر الكرة الأرضية على طائرات خصوصاً، ويخلط الأعمال التجارية الكبيرة، والانشطة الخيرية، والدين، والسياسة بطريقة يعتبرها الكثيرون بغيضة أخلاقياً.

وفي واقع الأمر فإن هذا الرجل، الذي تولى مهمة مبعوث السلام، ورط بريطانيا في الحرب خمس مرات خلال ست سنوات عندما كان رئيساً للوزراء وزعيماً لحزب العمال البريطاني (الذي ظل مسالماً لفترة طويلة قبل أن يتزعمه)، فقد دفع بريطانيا إلى أتون الحرب عام 1998 في كل من العراق، وكوسوفو، وسيراليون وأفغانستان ثم العراق مرة أخرى عام 2003. كان هو أيضا الرجل، الذي سخر منه الناس عندما أدعى في وقت لاحق كيف كان يصلي إلى الله ليلهمه اتخاذ قرار لإرسال جنود للعراق من عدمه.

ويبدو أن تعيينه مبعوثا للسلام في المنطقة كان خطأ مريعاً نظراً للكوارث التي حلت بالمنطقة بعد قرار بريطانيا الانضمام للولايات المتحدة في غزو غير شرعي للعراق عام 2003، حيث صارت العراق والمنطقة في حالة من الفوضى لا تزالان تعانيان منها حتى الآن. وفي الواقع، كان هناك صلة مباشرة بين انهيار العراق، وتحوله إلى نطاقات متناحرة، وصعود جماعات إرهابية مثل تنظيم «داعش»، استغلت بشراسة الفراغ في السلطة.

بطبيعة الحال، كان الدافع وراء تعيين بلير سيرته كشخصية سياسية دولية معروفة، تكن له أميركا كل الاحترام، لا سيما بسبب ولائه للرئيس الأميركي السابق، جورج دبليو بوش، وهو أيضاً الشخصية التي قادت عملية تسوية السلام في إيرلندا الشمالية.

وكان هدفه محاولة فرض عملية سلام في الشرق الأوسط مماثلة لتلك التي تحققت في ألستر. الا أن هذا كان عملاً ينم عن غطرسة ما بعد الإمبريالية، حيث أن ألستر والشرق الأوسط مختلفتان بشكل كبير جداً، فعلى الرغم من التشابه في الاعمال التفجيرية، إلا أن «الجيش الأحمر الإيرلندي» يريد أن يظل على قيد الحياة ويتولى السلطة السياسية، في حين أن المقاتلين المسلمين في الشرق الاوسط أقل اهتماماً بمستقبلهم الشخصي، وهم على استعداد لأن يفجروا أنفسهم وعدوهم «في سبيل الله». وبغض النظر عن ذلك، كان بلير يعتقد أنه إذا أمكن معالجة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فمن الممكن قمع كل الصراعات الأخرى في المنطقة. ولكن هذا مستحيل بالنسبة لمعظم المراقبين، فبعض الأنظمة العربية لا تبدي اهتماماً بالفلسطينيين، في حين أن عشرات النزاعات في المنطقة ليس لها علاقة بإسرائيل. وبدلاً عن ذلك يستند الصراع على خلافات طائفية. أما بالنسبة إلى بلير، الذي يدعى أنه عميق الإيمان، ففضل التوسط بين شعوب تختلف حول القضايا الأساسية للعقيدة.

وتتمثل الحقيقة في أن العديد من العداوات في منطقة الشرق الأوسط تنطوي على قضايا أخرى، مثل الحصول على النفط أو الماء، وعدم المساواة، وانعدام الفرص الاقتصادية والسياسية، أو اشتباكات على الحدود المتنازع عليها. وعلى أي حال، فإن تلك الانظمة التي تتعامل مع بلير لم تكن أبداً تهتم بأي صفة يعمل ولصالح من يعمل، غير مهتمة بأعماله الشخصية الواسعة، التي يمضى لأجلها وقتا أطول من الاسبوع الذي يمضيه كل شهر كمبعوث سلام للشرق الأوسط.

على سبيل المثال، عندما أقنع بلير الإسرائيليين بالإفراج عن الترددات الكهرومغناطيسية لمشغل الهاتف المحمول الفلسطيني «الوطنية»، ثبت أن هذه الشركة هي عميل لبنك «جي بي مورغان»، والذي يعمل بلير فيه أيضا مستشاراً، حيث يصل راتبه السنوي هناك إلى ثلاثة ملايين جنيهاً استرلينياً في العام. وفي الوقت نفسه، فإن شركته، «توني بلير أسوشيتس»، العاملة في بعض دول الخليج تصل قيمة عقودها إلى 27 مليون استرليني.

وفي النهاية ماذا عن السلام الذي ظل يتوسط فيه بلير، الذي ظل يتنقل من مكان إلى آخر مثل شخصية «الهولندي الطائر»، وهي رواية من الفلكلور تتحدث عن سفينة أشباح، كتب عليها أن تبحر إلى الأبد في المحيطات من دون أن تعود لترسو من جديد في مرساها، ويعتبر ظهورها علامة شؤم للبحارة ونذير بكارثة وشيكة. ولم يكن تقدم السلام بطيئاً فقط في المنطقة، بل توقف تماماً في عهد بلير.

وكذلك الحال مع العراق الذي تم احتلاله من قبل مجموعة من المتشددين الدينيين القتلة، وهناك حرباً أهلية شرسة تدور في اليمن، الذي يهدد بالتحول إلى صراع بين إيران والعرب، وبطبيعة الحال هناك حرب في ليبيا، التي كان بلير يرتبط فيها بعلاقة متملقة مع الزعيم الطاغية (الراحل) العقيد معمر القذافي. وبعد سقوط الدكتاتور، وانهيار ليبيا، انفتح البلد على مصراعيه لملايين من المهاجرين العرب والأفارقة للبحث عن حياة جديدة في أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط.

وفي نهاية المطاف ما هو جواب بلير لهذه الأزمة المتفاقمة؟ في السنوات الأخيرة، أصيب بلير بالوهم على نحو متزايد، على سبيل المثال صار يحث الغرب على ضرب سورية وتقطيع أوصالها.

تويتر