بكين.. أكبر الرابحين من النظام الليبرالي ستكون الخاسر الأكبر من زواله

التقهقر الاقتصادي الأميركي يهدد صعود الصين

صورة

الصعود الصيني «صنع في أميركا»، وإذا وضعنا البراعة والاجتهاد اللذين عرف بهما شعب الصين جانباً، فإن التطور السريع للغاية في الصين، التي تعتبر ثاني أكبر اقتصاد في العالم، لم يتحقق إلا بفضل النظام الاقتصادي الدولي المفتوح، الذي صممته وأنشأته الولايات المتحدة. الآن لدى بكين سبب وجيه لكي تشعر بالقلق، فما صنعته لها أميركا يمكن أيضاً أن تحرمها منه أميركا.

المواجهات المالية في واشنطن التي سببتها أزمة سقف الدين تمخضت عنها كلمات حادة من جمهورية الصين الشعبية موجهة لأميركا. وقد تم ابلاغ الرئيس الأميركي، باراك أوباما، والجمهوريين في الكونغرس بعبارات لا لبس فيها بأن الصين تتوقع من واشنطن أن ترتقي إلى مستوى مسؤولياتها العالمية. وتكمن وراء مثل هذه الكلمات مخاوف صينية عميقة، حيث تباطأ معدل النمو في الصين بالفعل. صدمة أخرى مثل هذه من المحتمل أن تعيده إلى ما وراء 6 أو 7%، ما قد يهدد النظام السياسي والاجتماعي.

هذه الايام هي أسوأ أوقات القوة والهيبة الأميركية، إذ إن تردد أوباما حيال سورية واستعداده لإجراء محادثات مع ايران جعل حلفاء أميركا التقليديين من العرب يعتملون بالغضب، وفي الوقت ذاته اختارت تركيا نظام دفاع جوي صينياً بدلاً من الأميركي، بينما هاجم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الرئيس الأميركي، مدعياً أنه لين العريكة مع الفلسطينيين فضلاً عن الإيرانيين. هذه الدول لديها الكثير من أخطائها التي اقترفتها بنفسها، ولكن لم يصل عدم ثقة الشرق الأوسط في الولايات المتحدة يوماً من الايام ما وصل اليه الحال في الوقت الراهن.

صعود درامي

صعود الصين سيكون بلا شك واحدا من التحولات الدرامية العظيمة في القرن الحادي والعشرين. النمو الاقتصادي الاستثنائي للصين ودبلوماسيته النشطة تعمل بالفعل على تحويل المشهد في شرق آسيا، وسوف تشهد العقود القادمة زيادات مضطردة في الهيمنة والنفوذ الصيني. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ستتخلى الصين عن النظام الراهن أم ستصبح جزءا منه؟ وماذا يمكن أن تفعله الولايات المتحدة للحفاظ على مكانتها مع صعود نجم الصين؟

اغلاق الحكومة اضطر أوباما الى إلغاء مشاركته في قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ في بالي، وأيضاً في قمة شرق آسيا في بروناي. حيث إن غيابه عن هذه المنتديات العالمية المهمة والمهزلة المالية التي تدور فصولها في واشنطن من شأنها أن تهدد الثقة في ثقل الادارة الاميركية بوصفها «محوراً لآسيا». الظهور في المنتديات في هذا الجزء من العالم له أهميته القصوى، الا أن أوباما ترك المنصة للرئيس الصيني شي جين بينغ.

من جانبه، وجد شي نفسه مع ثلاثة مخاوف بشأن اتجاهات السياسة الاميركية. الاثنان الأولان خطران، ولكنهما يحدثان بشكل دوري. والثالث هو الأخطر - ويتمثل في التحول الهيكلي الذي يهدد آفاق الصين الاقتصادية من المدى المتوسط إلى الطويل.

مصدر القلق الأكثر إلحاحاً بالنسبة لبكين هو أن الجمود الذي طال أمده في واشنطن سوف يعيد الاقتصاد الأميركي إلى الركود، ويجعل الأسواق في حالة من الفوضى. فإذا لم يستطع - أو اذا فشل - صاحب عملة الاحتياط في العالم (أميركا) في دفع فواتيره في الوقت المحدد، فما هو مصير مستقبل النظام المالي العالمي؟ إذ إن الصين لن تنجو بسهولة جراء فشل الولايات المتحدة في الايفاء بالتزاماتها المالية.

الشيء الثاني الذي يسبب إزعاجاً لبكين هو أن استمرار ضعف الدولار يتسبب في تخفيض قيمة الكم الهائل من دين الصين على الولايات المتحدة. وتحتفظ الصين بسندات خزانة أميركية تقترب قيمتها من 1.3 ترليون دولار أميركي في يوليو 2013، ما يجعلها في أعلى القائمة الدولية في هذا الخصوص قبل اليابان. ويشكو الكثير من المسؤولين الصينيين منذ مدة طويلة من أن ديون الولايات المتحدة أصابها التضخم، وصارت تنقل ثقل تكيفها الاقتصادي على البلدان التي تحتفظ بقدر كبير من الدولار. هناك القليل الذي يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة حيال هذا الأمر، وترد الولايات المتحدة على مثل هذه الشكاوى بهز كتفيها وقولها إنها لم تطلب من بكين شراء ديون الولايات المتحدة.

أكبر تهديد ربما يأتي من البعد الثالث لسياسة الولايات المتحدة: وهو التحول الذي يجعل الولايات المتحدة تتحول من دورها ضامناً لأنظمة الحكم متعددة الأطراف ذات القاعدة العريضة والاتجاه نحو التجارة التفضيلية مع تحالفات صغيرة من أصدقائها، وهذا يعني ارتداد واشنطن عن النظام الليبرالي الذي تبنته بعد الحرب العالمية الثانية.

هذا النظام سمح لأوروبا الغربية بالارتفاع من تحت الأنقاض، وحقق الهيمنة لأميركا، وعزز التحالف الغربي ضد التهديد السوفيتي. وتسير المصلحة الوطنية الأميركية جنباً إلى جنب مع مسؤولياتها الدولية بوصفها القوة الاقتصادية الرائدة في العالم. وما هو جيد لألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها هو أيضاً جيد لأميركا، وهو ما يحتاجه حلفاء أقوياء وأغنياء.

الخبير بمعهد كارنيجي، اشلي تيليس، تحدث في مؤتمر استضافه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في البحرين هذا الأسبوع، قائلاً ان التسوية الاقتصادية لفترة ما بعد الحرب أصابها الآن التفكك. وما لم تحسب حسابه الولايات المتحدة هو أن القوى الناشئة بشكل عام، والصين بشكل خاص، ستكون أيضاً من المستفيدين من هذا النظام الذي قادته الولايات المتحدة.

صعود بقية الدول قد عكر صفو العلاقة بين مصالح الولايات المتحدة وتوفيرها البضائع العامة في العالم. الصين الآن على ما يبدو أصبحت مهيأة لتصبح أكبر اقتصاد في العالم، ولكن لم يكن ضمن خطة لعبة ما بعد الحرب أن تتحدى دولة ما هيمنة الولايات المتحدة.

ولهذا السبب صارت الولايات المتحدة تستبدل تعددية ما بعد الحرب العالمية الثانية بالتجارة التفضيلية والصفقات الاستثمارية مع دول تفكر بمنطقها نفسه. وهذا يعني، كما سمعته من السيد تيليس، تهميش ترتيبات تجارية شاملة لصالح صفقات ثنائية وإقليمية تبدو فيها المصالح الاميركية واضحة جداً.

في عالم مثالي، فإن الشراكة المقترحة عبر المحيط الهادئ والحلف التجاري والاستثماري عبر الأطلسي يعملان بمثابة أطر لقواعد تجارية واستثمارية شاملة - وهو ما يعتبر بمثابة جسر للعودة للتعددية، إلا أن ذلك في نظر الولايات المتحدة هو أشبه باستراتيجية تستطيع من خلالها إقصاء الصين من هذه المنظومة. بالطبع، يمكن لهذه المفاوضات أن تفشل، لأن هناك فروقاً هائلة حتى بين الأصدقاء، ولكن المسار قد تم تحديده: ففي الوقت الذي تنحسر قدرة الولايات المتحدة في توفير الأمن للنظام العالمي، فإنها في الوقت نفسه تتبنى وجهة نظر أكثر تطرفاً بشأن دورها ضامناً للنظام الاقتصادي المفتوح.

ينبغي أن تشعر بكين بالقلق، حيث إن عدم الاستقرار الجاري في واشنطن على المدى القصير، والرخاء المستدام في الصين يعتمد قبل كل شيء على الوصول إلى الملعب الرئيس على المستوى الدولي. ومن دون دعم قوي من الولايات المتحدة، فإن النظام المتعدد الأطراف سيقع في مزيد من الاخطاء، وستفسح العولمة المجال أمام التفتت والتشرذم. الصين، التي تعتبر أكبر الرابحين من النظام الليبرالي، ستكون الخاسر الأكبر من زواله.

فيليب استيفنز كاتب ومحلل بـ«الفايننشال تايمز»

 

تويتر