رحلة محفوفة بالمخاطر وفقدان الحياة

تذكرة في اتجاه واحد نحو أستراليا

صورة

في الحادي والعشرين من يونيو ‬2012، غرق أحد القوارب، الذي كان يحمل عددا من المهاجرين غير الشرعيين، في طريقهم من باكستان إلى أستراليا، وأدى ذلك إلى وفاة ‬94 منهم. وبعد انجلاء الموقف، واتخاذ تدابير الانقاذ كافة، روى الناجون عن محنتهم خلال تلك الرحلة، وعن الشبكات الاجرامية العالمية التي تنشط في تهريب البشر، وشبكات الفساد في الشرق الأقصى، وتعكس رواياتهم المأزق الذي وقعوا فيه، والمخاطر التي كانت تتهددهم في مواطنهم، فاضطروا لبيع ما يملكون مقابل الحصول على تذكرة لاتجاه واحد نحو أستراليا.

5000 دولار

في موطنه، دفعت أسرة إسحق ‬3000 دولار أخرى من اجل الاتصال بابنها، وبعد أسبوع من ذلك اقتيدت المجموعة إلى شاطئ يبعد ثلاث ساعات من العاصمة، وهناك استقلت قاربا، وبعد أربع ساعات وصلت إلى إندونيسيا، ثم أخذها تجار الهجرة إلى المطار لتسافر إلى جاكرتا، ومن هناك إلى منزل بمنطقة بوغور.

وجد والدا إسحق صعوبة في توفير مبلغ ‬5000 دولار، لتكملة الرحلة إلى أستراليا، فاضطر هو للمكوث في المنزل خمسة أشهر. وفي نهاية المطاف أرسلت أسرته المال، فنقله التجار إلى مركز للتسوق في جاكرتا، وهناك وجد عشرات من الرجال الأفغان والباكستانيين الشباب في الانتظار، ثم تلقى مكالمة أخرى فاستقل سيارة أجرة إلى موقف للحافلات، لينضم إلى ‬200 مهاجر آخرين، يستقلون أربع شاحنات سارت بهم في جنح الظلام.

لم يكن هناك سابق إنذار عندما توقف القارب فجأة، وبدأ يغوص تدريجيا في الماء، وصار أفراد الطاقم الاندونيسي ينادون بعضهم بعضاً بأصوات يشوبها القلق واليأس.

وعلى السطح الخشبي لقارب الصيد استيقظ محمد إسحق فجأة، عندما هزه لاجئ آخر بعنف: «انهض، القارب يغرق»، إلا أنه قبل أن ينهض واقفا أحس هذا الشاب الأفغاني الجنسية، الباكستاني المولد، بأن سطح السفينة بدأ يميل بشكل حاد تحت قدميه، وماهي إلا لحظة حتى سقط في الماء.

حدث ذلك في ‬21 يونيو ‬2012، كان القارب يبعد ‬107 أميال بحرية من أقرب نقطة على اليابسة، ابتلع الماء ‬94 لاجئا من بين ‬204 كانوا على متن القارب، وكلهم تقريبا من أفغانستان أو باكستان. وكانت تلك الحادثة واحدة من أسوأ حوادث غرق المهاجرين غير الشرعيين، الذين يحاولون الوصول إلى أستراليا في زوارق صغيرة، معرضين أنفسهم لخطر الموت غرقا، وتأتي هذه الحادثة بعد أسبوع من غرق ‬90 مهاجرا آخرين، غاص بهم قاربهم في الماء، وهو يحمل على متنه ‬200 شخص، متجهين إلى جزيرة الكريسماس، الواقعة على بعد ‬250 ميلا من إندونيسيا، والقريبة جدا من أستراليا.

هناك الكثير من حوادث غرق مثل هذه الزوارق، كما يروي ممثل المواطنين الأفغان في أستراليا، وفقد أكثر من ‬600 مهاجر أرواحهم خلال العامين، أو الأعوام الثلاثة الماضية، إلا أنه من المستحيل معرفة الرقم الحقيقي للأشخاص الغارقين.

وتقر باكستان، التي يأتي منها معظم المهاجرين، وإندونيسيا التي يمرون عبرها، أنهما لا تستطيعان إيقاف هذا التدفق. وتحاول أستراليا بشتى الطرق ثني طالبي اللجوء المحتملين عن القدوم إلى أراضيها عن طريق سن قوانين جديدة، ومعالجة الظاهرة في بلاد المنشأ، وبوعودها باستيعاب المزيد من المهاجرين، الذين يدخلون البلاد بصورة قانونية، إلا أن مثل هذه الإجراءات ليس لها تأثير يذكر على ما يبدو.

رواية إسحق

جاء إسحق من مدينة كراتشي الساحلية الباكستانية، حيث تعيش عائلته منذ ان هاجرت من منطقة ريفية بوسط أفغانستان قبل ‬25 عاما. مرت سنوات دراسته في المدارس والجامعات من دون وقوع حوادث، وبعد فترة قصيرة من زواجه، بدأ الأمن يتدهور في المدينة، وأصبح إسحق مستهدفا.

ينتمي إسحق لقومية الهزارة مثله مثل معظم المهاجرين معه على متن القارب، وهي أقلية عرقية في أفغانستان وباكستان تعاني التهميش، نظرا لانتمائها لطائفة الشيعة في بلدان معظم أهلها من المسلمين السنة، إلا أن هذا التهميش تحول في كراتشي، وغرب مدينة كويتا، حيث يوجد عدد كبير من الهزارة، إلى خطر مميت.

وفي كلتا المدينتين بدأت فرق من المسلحين السنة تهاجم الشيعة، خصوصا الهزارة، وتصاعدت أعمال العنف شهرا بعد آخر، وتعرض اثنان من أقارب إسحق لإطلاق النيران، وأصيب أحدهم بالشلل من منطقة الخصر، وتلقى إسحق نفسه الكثير من التهديدات، لهذا قرر أواخر عام ‬2011، على مضض، الهجرة إلى مكان ما. ويضيف، «بالطبع لم تكن الهجرة في نيتي، فقد كانت لي عائلتي، زوجتي، وعملي، لكن لم يكن لدي أي خيار آخر».

اختار إسحق أستراليا، لأنها البلد الوحيد الذي يعتقد أنه يقبل المهاجرين، إضافة إلى أنه سيجد في أستراليا أصدقاءه وأقاربه، الذين يعيشون ضمن جالية الهزارة متزايدة العدد هناك.

وفي كويتا، أوصله أصدقاؤه إلى الأشخاص الذين ينظمون مثل تلك الرحلات، وقال إنه دفع مبلغ ‬4000 دولار على أقساط للوصول إلى ماليزيا، ثم ‬3000 أخرى، للسفر من هناك إلى إندونيسيا، وودع والديه وزوجته في الأسبوع الأول من عام ‬2012، ليغادر على متن طائرة إلى كوالالمبور.

قصة علي حسن كاكا

في كويتا نفسها، كانت هناك عائلة أخرى تستعد لوداع ابنها الموظف بأحد البنوك، علي حسن كاكا، وابن عمه عمران، وهما من قومية إسحق نفسها، دفع الاثنان ‬14 ألف دولار لأحد وكلاء السفر. تروي زوجة أخيه في ليلة وداعه، قائلة «كانت الأسرة جميعها تأكل وتتجاذب أطراف الحديث، وتتحدث عن ما يخبئه المستقبل بالنسبة للمسافرين، ويقول علي إنه «بعد بضعة أشهر من وصوله أستراليا، سيرسل لنا جميعا لنذهب إلى هناك». وتقول إن فكرته المتعلقة بمغادرة باكستان أخافتها، لكنها شجعته على الذهاب إلى هناك، والبحث عن مستقبل أكثر اخضرارا.

إلى الشمال، وفي المرتفعات الواقعة على الحدود الباكستانية مع أفغانستان، وبالتحديد منطقة باريشنار، كان عشرات من الشبان الآخرين، الذين ينتمون أيضا إلى قومية الهزارة، يستعدون كذلك للهجرة إلى أستراليا. هنا أيضا تتصاعد أعمال العنف الطائفية، أحد التقارير الذي أعدته وكالة التحقيقات الفيدرالية الباكستانية، يروي كيف أن خمسة رجال من منطقة كورام سافروا إلى إسلام آباد، لمقابلة أحد وكلاء الهجرة في سبتمبر ‬2011، وخلال ثلاثة أشهر دفع هؤلاء الرجال للوكيل أكثر من ‬90 ألف دولار، لتسفير ‬10 من أبنائهم وأبناء عمومتهم وأشقائهم إلى استراليا للعمل.

كان هناك عميل آخر هو عبدالعزيز البالغ من العمر ‬45 عاما، يقول أخوه «قرر عبدالعزيز الهجرة بعد أن شاهد أعمال الاضطهاد التي يتعرض لها الشيعة في مدينتنا، فاقترض مبلغ ‬10 آلاف دولار، ليسافر إلى تايلاند ومن هناك إلى أستراليا».

ويقول المحققون الحكوميون في اسلام آباد، إن ذلك الوكيل، يدير عملية واسعة النطاق مع جهات أخرى، منتشرة على طول الطريق وصولا إلى أستراليا. وتعتبر إحدى الوكالات التي يطلق عليها «وكالة تاجر للسفر»، بمثابة واجهة لشبكة الهجرة.

ماليزيا وإندونيسيا

عندما وصل إسحق إلى مطار كوالالمبور اشترى بطاقة هاتف محمول (سيم كارد)، واتصل برقم هاتف زودته به في كراتشي وكالة تاجر للسفر. وفي غضون ساعة، اتصل به أحد الرجال الماليزيين المنتمين إلى هذه الوكالة، الذي أقله إلى مكان ما متفق عليه في المدينة. وبعد ليلة قضاها وحيدا في ذلك المنزل بالعاصمة الماليزية، انضم إسحق إلى مجموعة أخرى من قومية الهزارة، جاءت إلى هنا عبر طرق عدة.

في عرض البحر

وصل المهاجرون منتصف الليل إلى أحد الشواطئ بالساحل الجنوبي من جاوة، كانت هناك زوارق صغيرة في الانتظار لأخذهم إلى قوارب كبيرة، ترسو على بعد أميال عدة داخل البحر. وعند اقترابه من القارب الذي سيقله إلى جزيرة الكريسماس، أحس إسحق بأسوأ حالة من الخوف، لم يشعر بها أبدا في حياته، يقول «كان هناك رجال في كل مكان من ظهر القارب يطلبون منا العودة، لأنه لا يتوافر مكان لهم في القارب، وأن القارب سيغرق إذا زاد فيه عدد الركاب، إلا أن اسحق وجد نفسه داخل القارب بعد أن دفعه الركاب اآلخرون من خلفه، والذين كانوا يتدافعون من اجل الحصول على مكان لهم على سطح القارب، واستطاع إسحق ان يحصل على آخر سترة نجاة، وتسلم المهربون هاتفه الجوال، ولم يكن بحوزته سوى ملابسه، وجواز سفره، ومحفظة نقوده، ومئات قليلة من الدولارات.

إهمال

في تلك الليلة، غلب النوم أحد أفراد طاقم السفينة، تاركا مضخة القارب دون تزويدها بالوقود، فنفد وقود المحركات وتوقفت عن العمل، وملأ الماء سطح القارب، يقول إسحق «حدث ذلك بسرعة كبيرة، ما أدى إلى انقلاب القارب، انزلق الجميع إلى الماء، انتشر الهلع بين الركاب، وتعالى صياحهم، وصار كل منهم يحاول الامساك برفيقه، ويجاهدون ويغرقون».

تمسك ‬30 أو ‬40 راكبا ببدن السفينة، وغاصت البقية في جوف الماء، بعد ساعات عدة تقطعت الأربطة في سترة النجاة الخاصة بإسحق، فأمسك بالسترة بإحدى يديه وسبح بالأخرى، كانت الجثث منتشرة على سطح الماء، رجال ينادون بعضهم بعضاً ثم يخمد صوتهم. يقول إسحق «دعونا الله لينقذنا، وحاولنا تشجيع بعضنا بعضاً، مات رفاقي أمام ناظري، وتلاشت آمالي».

بعد ‬24 ساعة في الماء، حلقت فوق رؤوسنا مروحية على مستوى خفيض، إلا أنها أسقطت زورقا وبعض المؤن، بعيدا عن المهاجرين المنهكين، وأسقطت مروحية أخرى زورقا مطاطيا، تعلق به إسحق، وبعد ساعة من ذلك، التقطت سفينة حربية أسترالية الناجين من المهاجرين وأخذتهم إلى جزيرة الكريسماس، يقول إسحق إنه بحث عن أصدقائه، لكنه لم يجد إلا قليلا منهم، ولم يكن بينهم كاكا وابن عمه عبدالعزيز.

الخبر السار الوحيد هو أن وكالة تاجر للسفر تم تطويقها، واعتقلت السلطات في كويتا رجل شرطة باكستانياً متورطاً في هذه الشبكة. وتم اعتقال أربعة آخرين بضاحية راقية في إسلام آباد، واعترف جميعهم بأنهم تلقوا ‬700 ألف دولار من عملائهم، ويقول المحققون إن هذا الرقم مجرد كسر ضئيل من المبلغ الاجمالي. وفي إندونيسيا اعتقلت السلطات هناك شخصين، وخلال الشهر الماضي أمرت محكمة باكستانية بحبس الرجل الذي نظم رحلة الحادي والعشرين من يونيو الجاري لست سنوات.

قرأت عائلة كاكا عن مأساة ابنها في الصحف المحلية. تقول أخته «لم يصدقها أحدنا في البداية، وأصابت الصدمة خطيبته». أما محنة عائلة عبدالعزيز فقد كانت كبيرة، فمع وفاة العائل الرئيس للعائلة، ترك الابن الأكبر المدرسة وعمل في أحد المخابز، ومنزله معروض الآن للبيع لدفع الديون المستحقة»، يقول أخوه «ليس لدينا خطط للمستقبل، لم أستطع أن أنظر في عيني أختي، حتى بعد عام من رحيله».

إسحق، الناجي، ينصح من يخططون للهجرة إلى أستراليا، بقوله «إذا كانت حياتك آمنة، ولديك خيار آخر لا تفعل ذلك، لأنها لا تستحق المخاطرة، لكن إذا لم يكن لديك أي بديل، فلا مفر من ذلك».

تويتر