آثار اليورانيوم المنضب تطارد الأجيال العراقية

استخدام اليورانيوم المنضب في غزو العراق عام ‬2003 خلف كارثة صحية مستمرة. أرشيفية

ينتشر الغبار في الشوارع الطويلة في العراق التي تشابه أصابع الصحراء. وتخترق العيون والأنوف والحناجر، وهي تدور بصورة حلزونية في الأسواق، وملاعب المدارس، وتحمل معها، حسب ما يرى الدكتور جواد العلي «بذور موتنا»، وقال لي هذا الرجل وهو أخصائي في أمراض السرطان يحظى باحترام دولي من مستشفى الصدر التعليمي في البصرة، ذلك الكلام في عام ‬1999، والآن لا يستطيع أحد تفنيد تحذيرات الدكتور العلي.

وقال الدكتور العلي إنه «قبل حرب الخليج كانت تأتي إلينا إصابتان او ثلاث بأمراض السرطان شهريا، ولكن الآن يموت لدينا ما بين ‬30 الى ‬35 حالة شهريا. وتشير دراساتنا الى انه ما بين ‬40 و‬48٪ من السكان في هذه المنطقة سيصابون بالسرطان. وهذا ما يعادل نصف السكان تقريباً».

وأضاف «معظم أفراد عائلتي أصيبوا بالمرض، على الرغم من أنه ليس لنا أي تاريخ بالمرض. تبدو الأمور هنا كأن مفاعل تشيرنوبل قد انفجر، وتبدو التأثيرات الجينية جديدة تماماً بالنسبة لنا، حتى أن العنب في حديقة منزلي أصبح مشوهاً ولا يمكن أكله».

وتحتفظ الدكتورة جنان غالب حسن المتخصصة بمرض الاطفال، بألبوم يضم صور الأطفال الذين تعمل على علاجهم. والعديد منهم يعانون ورم الخلايا العصبية. وقالت «قبل الحرب شاهدنا حالة واحدة من هذا الورم غير العادي خلال عامين، ولكن الآن لدينا العديد من الحالات ومعظمها من دون تاريخ مرضي للعائلة. ودرست ما حدث في هيروشيما، انه شبيه تماما بما يحدث لدينا». ومن بين الاطباء الذين أجريت معهم المقابلات، لم يكن لدى أحد منهم شكوك كبيرة بأن قذائف اليورانيوم المنضب التي استخدمها الأميركيون والبريطانيون في حرب الخليج هي السبب الرئيس وراء كل ذلك. وقال طبيب عسكري مخصص لتنظيف ميدان حرب الخليج عند المنطقة الحدودية ما بين الكويت والعراق «كل قذيفة تم إطلاقها في هذه الحرب كانت تحمل اليورانيوم. وتم استخدام أكثر من ‬300 طن من اليورانيوم المنضب. لقد كانت عبارة عن حرب نووية». وعلى الرغم من أن إثبات العلاقة مع السرطان كانت دائماً صعبة يرى الاطباء العراقيون أن «المرض يتحدث عن نفسه»، وكتب رئيس برنامج السرطان في منظمة الصحة العالمية الخبير البيئي كارول سيكورا في تسعينات القرن الماضي، في مجلة بريتش ميديكال جورنال: «يعمل مستشارو حكومتي الولايات المتحدة وبريطانيا على منع وصول أي معدات لعلاج الاشعاع النووي، وعقاقير العلاج الكيماوي، والمسكنات الى العراقيين». وقال لي «أبلغتنا منظمة الصحة العالمية ألا نتحدث عن أمور العراق تحديدا. لأن منظمة الصحة العالمية لا تحب التورط في السياسة».

وكتب لي أخيراً مساعد الأمين العام السابق للأمم المتحدة السابق هانز فون سبونيك، وهو مسؤول كبير في القضايا الانسانية في العراق أن «حكومة الولايات المتحدة تمنع منظمة الصحة العالمية من إجراء مسح لمناطق جنوب العراق، حيث تم استخدام اليورانيوم المنضب وسبب أضراراً صحية خطيرة ومخاطر بيئية أيضاً».

وفي أيامنا، ثمة تقرير عن دراسة أجريت بصور مشتركة بين منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة العراقية، تم تأجيل نشره، ويغطي التقرير ‬10800 عائلة وهو يحوي «أدلة ملعونة»، كما يقول مسؤول وزاري عراقي، وحسب أحد الباحثين في التقرير، فإنه لايزال يعتبر طي «الكتمان»، ولكنه ذكر أن التقرير يشير إلى أن حالات فشل الولادات قد ارتفعت حتى وصلت الى حالة «أزمة» في المجتمع العراقي، حيث تم استخدام اليورانيوم المنضب ومواد كيماوية أخرى من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا. وبعد مرور ‬14 عاماً على التحذير الذي أطلقه الدكتور جواد العلي، فإنه لايزال يتحدث عن إصابات متعددة للسرطان في مختلف العائلات، حتى أنها اصبحت بمثابة «ظاهرة».

ولم يعد العراق ومشكلاته يمثل أخبارا للصحافة. وفي الاسبوع الماضي لم يكن مقتل ‬57 عراقياً في يوم واحد خبراً مهماً مقارنة بمقتل الجندي البريطاني في لندن. ومن المؤكد أن العملين الوحشيين مترابطان.

وكانت «الفوضى» التي خلفها الرئيس الاميركي السابق جورج بوش ورئيس وزراء بريطانيا توني بلير عبارة عن «حرب طائفية»، أدت في ما بعد الى تفجيرات ‬7/‬7 (التي استهدفت محطة المترو في لندن)، ومن ثم القتل الدموي في وولويتش. وبعد ذلك عاد بوش الى مكتبته الرئاسية، وبلير الى جمع الاموال والأسفار. وكتب فون سبونيك ان «الفوضى» التي خلفاها تمثل جريمة من القياس الملحمي، مشيراً الى تقديرات وزارة الشؤون الاجتماعية التي تقول إن «‬4.5 ملايين طفل فقدوا آباءهم. وهذا يعني أن ‬14٪ من سكان العراق من الايتام، وأن مليون عائلة مسؤولة عنها امرأة، ومعظمهن أرامل، ويعتبر العنف المنزلي وإساءة معاملة الاطفال مشكلات ملحة في بريطانيا، وفي العراق فإن الكارثة التي سببها بريطانيا جلبت العنف وإساءة المعاملة إلى مليون منزل».

وفي كتاب غاريث بييرس، أهم محامية بريطانية عن حقوق الانسان، بعنوان «طرود من الجانب المظلم» يطبق أحكام القانون على بلير، وعلى اليستر كامبل المسؤول عن الترويج الاعلامي في حكومته. تقول في كتابها «البشر الذين يفترض انهم يحملون وجهات نظر إسلامية يجب حرمانهم القدرة على فعل أي شيء بأي وسيلة ممكنة. وبلغة بلير فإن الفيروس يجب القضاء عليه، الامر الذي يتطلب الكثير من التدخلات عميقاً في شؤون الدول الأخرى، وحتى فكرة الحرب تم تشويهها الى فكرة قيمهم في مواجهة قيمنا». وأما بالنسبة لوزير الخارجية البريطاني السابق جاك سترو، فإن إرسال المواطنين البريطانيين الابرياء الى سجن غوانتانامو كان أفضل طريقة لتحقيق أهدافنا في محاربة الإرهاب، وهذه الجرائم والظلم الناجم عنها ما حدث في ضاحية وولويتش. ولكن من يطالب بذلك؟ في المسرح السياسي البريطاني، لقد اصبحت اعمال العنف التي تقوم بها قيمنا بلا فائدة، فهل ستدير بقيتنا ظهورها الى ذلك دون اكتراث؟

جون بلجر كاتب أسترالي

تويتر