إصرار الإقليم على التنقيب واستخراج البترول جوبه برّد قاسٍ من بغداد

في كردستان العراق.. الدم مقابل النفط

المالكي والبارزاني.. عداء متزايد. غيتي

يعتقد المراقبون أن العراق قد يواجه حرباً أهلية ضد أكراده في الشمال، بسبب حق التنقيب عن النفط الخام واستخراجه في إقليم كردستان العراق برئاسة مسعود البارزاني. ويبدو أن الوضع في مدينة كركوك شمال العراق يشير إلى ذلك، ففي خارج المدينة تقع مجموعة من حقول النفط البدائية، إذ يجري إعداد المواقع لحفر آبار النفط. وإلى ناحية الجنوب داخل الوادي الواقع أسفل مواقع للقوات الكردية، تربض وحدتان من الجيش العراقي تراقبان المواقع للحيلولة دون أي استغلال لحقول النفط في هذه المنطقة.

منذ نوفمبر الماضي، بدأت تظهر على السطح أزمة مالية ونفطية وتاريخية في إقليم كردستان العراق شبه المستقل شمال البلاد، إذ يوجد نحو ‬30 ألف جندي كردي ومجموعات غفيرة من قوات الجيش النظامي العراقي، ويبدو أن الوضع اصبح مثالياً لحرب أهلية في دولة أخذت أكثر من نصيبها من مثل تلك الحروب.

مبررات قوية

السبب في هذه المواجهات واضح للغاية، فتحت هذه الارض يوجد ما يقدر بـ‬66 مليار برميل من النفط، كافية لتثير شهية أسواق النفط العالمية، وتغير من حظوظ العراق الاقتصادية، على افتراض أن هذا المورد الحيوي لن يعمل على تقسيم البلاد.

وصل الجيشان الى منطقة كركوك في نهاية نوفمبر الماضي، بعد حادثة إطلاق نار في محطة بترول بين الشرطة العراقية والقوات الكردية، خلّفت قتيلاً وأشعلت غضب المجموعتين. ومنذ ذلك الحين ظلت القوتان تحتكان ببعضهما بعضاً خلال الدوريات داخل مدينة كركوك المقسمة، وحول المنطقة المتنازع عليها، التي تزيد قليلاً على مساحة دولة الكويت، وأصبح الوضع حرجا لكلا الجانبين.

ويقول رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، محذراً مسؤوليه وحلفاءه في ديسمبر الماضي «سوف أقاتلهم، وسأستخدم القوة لأمنعهم من العمل في المناطق مثار النزاع». وفي الوقت الذي تستعرض كلا القوتين عضلاتها في مواجهة بعضهما بعضاً، فإن الحرب قد لا تنتظر، فقد فجر أحد التفجيريين عبوة ناسفة قضت على ‬36 شخصاً، وجرحت أكثر من ‬100 في مخفر شرطة في كركوك في الثالث من فبراير الجاري. يقول الضابط الاميركي الذي قاد قواته داخل منطقة كردستان عام ‬2003، وعاد مرة أخرى لتقديم الاستشارة لحكومة كردستان العراق «تتفجر كثيراً مثل هذه الحوادث، وقد ينفجر الوضع ليتحول إلى حرب لا يرغب فيها أي من الجانبين».

من هم الأكراد؟

القومية الكردية هي مجموعة عرقية بدوية هندو-أوروبية، انتشرت في أجزاء من تركيا وسورية وإيران والعراق، وتطالب بدولة مستقلة منذ ‬1920، إلا أن اكراد شمال العراق استطاعوا أن يحكموا أنفسهم بشكل كبير من ‬1991 والى ‬2003، ولم يكن لهم سوى القليل من الاتصال مع بغداد، ولم يجسروا على المطالبة بحقوقهم بشأن النفط، ولم يتدخلوا في سياسة استغلاله، إلا بعد سقوط الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، ومنذ ذلك الوقت بدأوا يطالبون بحقهم في التوقيع على صفقات التنقيب، واستخراج النفط من الاراضي التي يدعون ملكيتها تاريخياً. وعندما فتحت حكومة كردستان العراق الباب أمام شركات النفط العالمية لاستخراج النفط سمحت لتلك الشركات بالاحتفاظ بأرباح من النفط تفوق ما تجنيه تلك الشركات من حقول الجنوب في فترة ما بعد سقوط نظام صدام.

وهددت حكومة بغداد العام الماضي جميع شركات النفط التي تعمل داخل البلاد بأنها ستلغي عقودها إذا أقدمت على توقيع عقود نفط مع منطقة كردستان العراق، إلا أن ذلك التهديد لم يمنع أكثر من ‬50 شركة متعددة الجنسيات من التعامل النفطي مع الشمال، التي تضم شركات رائدة مثل اكسون موبيل، شيفرون، توتال، وغازبروم.

ويقول رئيس مجلس الاعمال الاميركي في العراق، حسين غراغولي، إن «الشركات الاميركية ترغب في أن تكون قادرة على الاستثمار في أي منطقة في العراق، وان تتخذ قراراتها وفقاً للجاذبية الاستثمارية لتلك المنطقة».

نفط مع وقف التصدير

وبالطبع فإن النفط لن تكون له قيمة، إلا إذا كان بالإمكان تصديره إلى الجهات التي تحتاجه في العالم، بيد أن كردستان العراق منطقة مغلقة، ولهذا السبب وقع الاكراد عقدا مع جارتهم تركيا لبناء خط انابيب لتصدير اي نفط يتم انتاجه من أراضي كردستان العراق أو حتى من المناطق المتنازع عليها. وبقيت مشكلة واحدة هي أنهم بموجب الدستور العراقي الجديد فإن بغداد هي الجهة الوحيدة التي تسيطر على صادرات النفط. ومن دون أنابيب نفط تنقل الخام الى الاسواق العالمية فإن نفط كردستان العراق يظل من دون معنى، وتبقى النتيجة هي مواجهات «كريهة»، تحمل الى السطح انقسامات عميقة بين الأكراد وبغداد.

وتهدد بغداد بأنها ستسخدام القوة لإحباط اي تصدير لنفط كردستان العراق عن طريق الشاحنات (نحو ‬70 الف برميل يتم نقلها يومياً بهذه الوسيلة الى تركيا)، وأنها ستسعى لإفشال خط الأنابيب المزمع البدء في إنشائه مع نهاية هذا العام. في مايو الماضي طلب المالكي من الرئيس الاميركي باراك اوباما، اقناع شركة «اكسون موبيل» بالتخلي عن انشطتها النفطية في كردستان العراق، أو إبطاء وتيرتها على الاقل، إلا أن هذا الطلب لم يكن له اثر، لأن أوباما أخبر المالكي بأن الحكومة الأميركية ليس لها أي سلطة على الشركات الخاصة، على الرغم من أن البيت الابيض حذر جميع شركات النفط الاميركية في العراق من مغبة توقيع أي عقود نفط من دون موافقة الحكومة العراقية، والذي من شأنه ان يعرضها لمخاطر قانونية دولية. وتعتبر «اكسون موبيل» أكثر الشركات المعرضة لمثل هذه المخاطر، إذ إنها وقعت عقداً بهذا الشأن مع الاكراد العام الماضي.

إن المخاطر السياسية التي قد تتعرض لها شركات النفط الدولية توازنها عوائد استثمارية ضخمة تتمثل في أن أفضل حقول النفط في العراق تقع داخل المنطقة المتنازع عليها. ويتوقع التقرير الصادر عن وكالة الطاقة العالمية العام الماضي بان العراق يمكنه من خلال الاستثمار الامثل للنفط أن يرفع إنتاجيته النفطية الى ‬6.1 ملايين برميل في اليوم بحلول عام ‬2020، والى ‬8.3 ملايين برميل في اليوم مع حلول ‬2030، ما يجعله المساهم الوحيد في نمو الامداد الدولي للنفط.

وضع هش

ولن يحدث ذلك، إلا إذا ساوى كل من بغداد والاكراد خلافاتهما، لكن يبدو أن المسألة بدأت تتفاقم، ففي نوفمبر الماضي تقدم ما يصل الى ‬60 ألفاً من القوات العراقية والكردية الى داخل المنطقة مثار النزاع، متخذة مواقع فيها، وفي ‬19 ديسمبر اطلقت قوات البشمركة (كما يطلق على القوات الكردية) النار على مروحية للجيش الحكومي، كما ضربت موجة من التفجيرات الطائفية هذه المنطقة المتنازع عليها، والتي خلفت اكثر من ‬90 قتيلاً، وجرحت أكثر من ‬500 آخرين، وهو ذلك العنف الذي ازعج مسؤولي وزارة الخارجية الاميركية، من بينهم السفير الاميركي لدى العراق روبرت بيكروفت، الذي سعى ليجمع بين الطرفين للوصول الى تسوية، إلا أنه لم يتم وضع جدول زمني لانسحاب القوات. وفوق كل ذلك فإن الرئيس العراقي، جلال طالباني، الذي ينتمي للقومية الكردية، والمعروف بمبادراته السلمية، يعاني جلطة دماغية.

وحتى يتمكن الاكراد من تصدير نفطهم بكميات كبيرة، فإنهم يظلون يعتمدون على بغداد في عائداتهم المالية، فعندما تم تشكيل الحكومة العراقية الجديدة ظل الاكراد يحصلون على ‬17٪ من عائدات النفط سنوياً، والتي تمثل في الوقت الراهن الموازنة الاجمالية لحكومة الاقليم.

ولاتزال الاعصاب مشدودة، إذ إن أقل حادث قد يشعل حرباً لا يرغب فيها أحد، ورجوعاً الى كركوك وقف جندي كردي يطلق عليه ولي عبدالله على تلة صغيرة ينظر من خلال صف من البنادق الآلية وقاذفات الصواريخ الموجهة الى مواطنيه العراقيين في الاسفل، ومن بين هذه الاسلحة رفع شخص وردة وحيدة وعلماً كردياً صغيراً، قائلا «لا نرغب في القتال»، وأضاف «لكن إذا اضطررنا الى القتال فسنلحق الهزيمة بالجيش العراقي»، فإما أن يكون هناك نفط أو دم.

تويتر