تسعى إلى وضع استراتيجية لسياسة خارجية للتعامل مع الواقع الجديد

«الربيع العربي» عمّق أزمة إسرائيل مع محيطها

نشر قوات عسكرية مصرية إضافية في سيناء سابقة تؤرق إسرائيل. أ.ب

صحيح أن الأزمات حالة مؤقتة وحادة ومقلقة، إلا أن المأزق الإسرائيلي اتخذ إطاراً زمنياً مختلفاً، وأصبح أكثر انتشاراً مقارنة مع معظم الأزمات، ولم يصل بعد الى لحظة حاسمة ومتوترة، لكنه على كل حال يعبر عن أزمة ليست فقط حول إيران، على الرغم من أن الحكومة الإسرائيلية تركز على هذه المسألة، إنما حول واقعها الاستراتيجي الإقليمي منذ عام ،1978 عندما وقعت اتفاقية كامب ديفيد مع مصر.

ولعل أعمق جوانب هذه الأزمة هو أنه لا يوجد إجماع داخلي في اسرائيل حول ما اذا كانت البلاد تعيش أزمة أم لا، حيث تتحدث الحكومة الإسرائيلية عن تهديد لوجودها من الأسلحة النووية الإيرانية، لكنني أعتقد أن التهديد الوجودي أوسع وأعمق، أحد أجزائه جديد تماماً، والجزء الآخر يتجذر في نسيج تأسيس إسرائيل.

وبالطبع، فإن إسرائيل تسعى جاهدة لوضع استراتيجية لسياسة خارجية تستطيع التعامل مع الواقع الجديد. وهذا من شأنه ان يسبب ضغوطاً داخلية كبيرة في ظل تشتت وتبعثر الإجماع على السياسة الإسرائيلية الداخلية، في الوقت الذي يتغير فيه الواقع الاستراتيجي. وترى إسرائيل نفسها في موقف ضعيف على المدى الطويل، نظرا لحجمها وعدد سكانها، على الرغم من تفوقها العسكري الحالي، وبشكل أدق، ترى ان تطور الأحداث على مر الزمن يعمل على تقويض هذا الواقع العسكري، وبالتالي تشعر بأن مثل هذه الضغوط تضطرها للعمل على الحفاظ عليه، ويتمثل جوهر ازمة اسرائيل في كيفية الحفاظ على تفوقها في ظل المعطيات الاستراتيجية الناشئة.

مصر

تشعر اسرائيل منذ عام 1978 بأنها لا تواجه خطر حرب كاملة بعد توقيعها اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، إلا أن الواقع يقول إن اسرائيل لاتزال تواجه خطر حرب مع سورية الرسمية، فقد غزت سورية لبنان عام ،1976 لسحق منظمة التحرير الفلسطينية المتمركزة هناك، ولإحكام سيطرتها على لبنان، إلا أنها تعلم تماماً أنه لا يمكنها مهاجمة إسرائيل، وظلت سورية مقتنعة بجدوى التوصل إلى تفاهمات غير رسمية مع إسرائيل. ويظل لبنان وحده البلد غير المستقر في المنطقة، وتتدخل إسرائيل هناك بين الفينة والاخرى بشكل غير ناجح لحد كبير، لكن ايضا بتكلفة عالية جدا.

أهم جيران إسرائيل، (مصر)، يتحرك الآن في مسار غير واضح، فخلال هذا الشهر أقال الرئيس المصري، محمد مرسي، خمسة من قادة الجيش الاساسيين، اضافة الى رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وألغى التعديلات الدستورية التي أدخلها الجيش. هناك فرضيتان حول هذه التطورات: الاول يقول ان مرسي، القيادي البارز في جماعة الاخوان المسلمين، أكثر قوة من الجيش، ويتصرف بشكل حاسم لتغيير النظام السياسي المصري، بينما الفرضية الثانية تعتقد أن ما حدث هو جزء من اتفاق بين الجيش وجماعة الإخوان المسلمين من اجل ان يظهر مرسي بمظهر الرجل القوي امام الجمهور، لكنه في الواقع يترك كامل السلطة للجيش.

وأميل شخصياً للرأي الثاني، ففي هذا السياق بدا مرسي داعماً للخطوات التي اتخذها الجيش ضد الميليشيات الاسلامية، كما بدا من العمليات العسكرية في سيناء في الأسابيع القليلة الماضية.

وتظل سيناء منطقة عازلة ضد أي تحركات عسكرية كبيرة، لكنها لا تمنع انشطة شبه عسكرية مرتبطة بالميليشيات الاسلامية المتطرفة التي ازداد نشاطها بعد سقوط نظام الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، في فبراير ،2011 واهمها كان الهجوم على نقطة تفتيش مصرية عسكرية وما تلاه من هجمات عدة ضد اسرائيل، وعلى الرغم من تحركات الحكومة المصرية لإنهاء نشاط هذه الجماعات إلا ان هذا الواقع الجديد قد يتمخض عن مشكلتين:

الأولى تتمثل في ان قدرة الحكومة المصرية على القضاء على الاسلاميين المتشددين تعتمد على إعادة تعريف اتفاقات كامب ديفيد، على الأقل بصورة غير رسمية، لكي تتمكن مصر من نشر قوات كبيرة هناك، وعلى الرغم من أن هذه القوات العسكرية لن تشكل تهديداً لإسرائيل في الوقت الراهن، إلا انها ستمثل سابقة لأكبر وجود عسكري مصري في شبه جزيرة سيناء يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى تهديد اسرائيل.

وهذا من شأنه أن يكون صحيحاً إذا فرض مرسي و«الإخوان المسلمون» إرادتهم بالفعل على الجيش المصري، وإذا أخذنا مرسي على أنه شخصية معتدلة فيصبح السؤال هو: من خليفته؟ اذ يبدو ان «الإخوان المسلمين» في صعود واضح على الساحة السياسية المصرية، مع عدم وجود احتمال أن تتمخض الانتفاضة المصرية عن ديمقراطية علمانية.

أيضاً يتضح من الانتخابات السابقة أن «الإخوان المسلمين» يمثلون الحركة الأكثر شعبية في مصر، لكن لا يستطيع احد أن يتنبأ بكيفية تطورها، أو أي من فصائلها ستسيطر على الامور في المستقبل، إذ ان الجيل المصري المقبل لن يشبه بأي حال من الاحوال الجيل السابق، وهذا يعني أن حسابات التفاضل والتكامل الإسرائيلية لما سيحدث على الجبهة الجنوبية ستحتاج إلى أن تأخذ «حماس» في غزة في الاعتبار، فربما اصبحت مصر الاسلامية مستعدة للتحالف مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس).

سورية ولبنان

الوضع نفسه يسود في سورية، حيث ان النظام العلماني والعسكري لعائلة الأسد في ورطة حقيقية، وفيما يبدو ان للإسرائيليين علاقة عمل مع السوريين تعود إلى الغزو السوري للبنان، سعيا للقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية عام ،1976 لكنها لم تكن علاقة دافئة، لكن كان يمكن التنبؤ بها على الاقل، لاسيما في تسعينات القرن الماضي، عندما اطلقت إسرائيل يد سورية في لبنان مقابل لجم دمشق تصرفات «حزب الله» حيال اسرائيل.

بيد ان ذلك التفاهم انتهى تماما عندما ضغطت الولايات المتحدة على سورية للخروج من لبنان بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري عام ،2005 حيث استغلت أميركا «ثورة الأرز» للرد على سورية، بعد سماحها لتنظيم القاعدة بإرسال جهاديين إلى العراق عبر أراضيها.

إلا أن ذلك لم يكن السبب في إشعال الاضطرابات الحالية في سورية، اذ يبدو ان هذه الاحداث هناك تنطوي على ائتلاف فضفاض من طائفة السنّة، وبعض عناصر من جماعة الإخوان المسلمين واسلاميين آخرين. وعلى الرغم من أن اسرائيل فضلت (الرئيس السوري بشار) الأسد على هذه الجماعة، إلا ان الاسد صار يغير سلوكه، فكلما تعرض لضغوط اتجه نحو إيران، فأصبحت اسرائيل تواجه احتمالين غير سارين، اما حكومة إسلامية سنّية أو حكومة تعتمد اعتماداً كبيراً على إيران، ولم يكن أي من الخيارين جذاباً لإسرائيل، كما ان الخيارين ليسا تحت سيطرتها.

ان لبننة سورية تشكل خطراً كبيراً على إسرائيل، ولهذا فإن أفضل خيار لإسرائيل هو ان يسعى الغرب للحفاظ على النظام العلماني العسكري السوري من دون الاسد، لكن من غير الواضح الى متى سيصمد نظام مدعوم من الغرب ومرتكز على هيكل الاسد، حتى أفضل الخيارات تنطوي على خطورة، ولهذا السبب تواجه اسرائيل احتمال تعرض امنها للخطر من ناحية الشمال.

الدور الأميركي

من المهم أن نأخذ في الاعتبار الدور الأميركي في هذا الصدد، لأن أمن اسرائيل في نهاية المطاف، خصوصاً إذا تدهورت بيئتها الاستراتيجية، تقع مسؤوليته على الولايات المتحدة. وبالنسبة لواشنطن، فإن الوضع الحالي في سورية يعتبر انتصارا استراتيجياً، فإيران تعمل على توسيع قوتها غرباً، مروراً بالعراق وسورية، وهذا من شأنه ان يمثل تحدياً في المنطقة يمس المصالح الأميركية مباشرة، ففي الوقت الذي ترى فيه إسرائيل ان مصلحتها تتمثل في بقاء الأسد، فإن واشنطن لا ترى ذلك. وتتمثل مصلحة واشنطن الاولية في منع إيران من ان تشكل تهديداً لشبه الجزيرة العربية، وتنظر الولايات المتحدة الى سورية، خصوصاً بعد الانتفاضة، على انها دمية في يد إيران، فبينما تبتهج أميركا لرؤية ايران تواجه تحولاً في سورية، تشكل تلك النتيجة غموضاً في إسرائيل.

تحديات محلية

إن الأزمة التي يواجهها الاسرائيليون هي أن قوتهم الترجيحية وعلاقاتهم العلنية والسرية وقوتهم العسكرية ليست على مستوى الاوضاع الحالية التي تعمل على تشكيل بيئتهم المباشرة، فقد فقدوا المبادرة الاستراتيجية، كما ان نوع القوة التي يمتلكونها لن تكون حاسمة في التعامل مع القضايا الاستراتيجية، ولم تعد قوتهم العظمى تجدي، وأصبحوا يعملون في مجال معقد تستعصي فيه الحلول العسكرية.

القوة التي تتمتع بها إسرائيل هي قواتها العسكرية التقليدية، إلا ان هذه القوة ليس لديها فهم كامل أو سيطرة على القوات التي تنشط على حدودها، لكن يمكنها فهم التهديد النووي الإيراني، الامر الذي يجعل اهتمامها ينصب على هذا النوع من الصراع التقليدي الذي تستطيع التفوق فيه، أو بالأحرى كانت تستطيع التفوق فيه. لا ننسى أيضا ان إسرائيل لديها مشكلة داخلية، تتمثل في أزمة ثقة، فالكثير من القيادات العسكرية والاستخباراتية تعارض شنّ هجوم على إيران، وهذا هو فحوى أزمة إسرائيل.

جورج فريدمان - مؤلف وأستاذ علوم سياسية أميركي

تويتر