قراءة في مذكرات مؤسِّس مكتب تمثيل إسرائيل في الدوحة سامي ريفيل «2-4»

صفقة الغاز الطبيعي تحسم تقارب الدوحة الاستراتيجي مع تل أبيب

صورة

مثَّل تأسيس علاقة علنية بين إسرائيل وقطر زلزالاً في المنطقة العربية، من جهة، لأن قطر لم تكن من دول المواجهة، وبالتالي لم تكن بحاجة للتعامل المباشر مع إسرائيل، لا سلباً ولا إيجاباً، ومن جهة ثانية، لأن في هذه العلاقة اختراقاً ووصولاً إلى قلب الخليج العربي، وهو أمر لم يكن يخطر على بال أحد، بمن فيهم الإسرائيليون أنفسهم.

وتكشف مذكرات مهندس هذه العلاقات ومدير أول مكتب إسرائيلي في الدوحة، الدبلوماسي الإسرائيلي سامي ريفيل، التي ترجمها إلى العربية الباحث محمد بحيري، ونشرتها مكتبة جزيرة الورد بالقاهرة، وحملت عنوان «قطر وإسرائيل.. ملف العلاقات السرية»، والتي نقدم هنا قراءة بين سطورها، تكشف خلفية هذا الاختراق الإسرائيلي لقطر، ومنحنيات صعوده وهبوطه، والدور الحكومي والمقاومة الشعبية له، وحجم المصالح الخلفية التي تقف وراءه، والمواجهة الخليجية والعربية له، وتباين مراحله من العلنية والفخر إلى التقية، ومن ثم الاختباء.


يرصد سامي ريفيل، في جزء كبير من المذكرات، وضع صفقة الغاز الطبيعي بين الدوحة وتل أبيب، بوصفها المفتاح الرئيس في إنشاء وتطوير العلاقات القطرية الإسرائيلية، ويشير إلى أن «البوادر الأولى لجسّ النبض بين إسرائيل وقطر، بدأت في سبتمبر 1993، حيث جرى لقاء بين الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني وشيمون بيريز، في المقر الخاص لسفير قطر في الأمم المتحدة بنيويورك، وتوازى معه في التوقيت اتصالات مكثفة حول مشروع توريد الغاز القطري إلى إسرائيل».

الكواري المرتبك

يرسم ريفيل بمهارة ودقة صورة عبدالعزيز الكواري، المرتبك بين توجه حكومته السياسي المتجه للتطبيع بلا حدود مع إسرائيل، ومشاعره كعربي حين يجد نفسه متجهاً إلى القدس المحتلة، فتفلت منه العبارات دون تحفظ، فيقول لمن حوله «لم أتخيل أبداً أن يأتي اليوم الذي أزور فيه القدس، وهي تحت السيادة الإسرائيلية»، ثم ليجد نفسه في خطوة تالية، ولكي يلحق بالجنازة، مضطراً لأن يركب طائرة هليكوبتر ملونة بأصباغ القوات الجوية الإسرائيلية، ليصعد له جندي إسرائيلي شاب يأمره بارتداء السماعات، ويصف ريفيل تلك اللحظة في جملة بليغة فيقول «كان ذلك مشهد سريالي»، أن ترى الوزير الكواري ومساعديه يرتدون ثيابهم البيضاء التقليدية، وغتراتهم الموشاة على رؤوسهم، ويجلسون على كراسي خضراء في طائرة هليكوبتر تابعة للسلاح الجوي الإسرائيلي، ويضعون على آذانهم سماعات الجيش الإسرائيلي. كانت لحظة غير متوقعة يستوعبها الشرق الأوسط الجديد، وأنا واثق بأن الوزير القطري في أكثر أحلامه هذياناً لم يكن يتخيل بينه وبين نفسه هذا الموقف».


- جاءت اتصالات قطر المتلاحقة مع إسرائيل كجزء من جهود الدوحة لجذب الانتباه العالمي إلى هذا المشروع، الذي يتم التخطيط له بهدف تشجيع الاستثمارات الأجنبية، وإيجاد شراكات مع كيانات اقتصادية ضخمة متعددة الجنسيات، في مجال النفط والغاز الطبيعي.

- على الرغم من إحساس ريفيل بالمرارة من الخوف والحذر واللعثمة التي أصابت قطر، والتي وجدت نفسها في «مركز عاصف»، حسب تعبير الدبلوماسي الإسرائيلي، إلا أن الدبلوماسي الإسرائيلي يخلص إلى أن جوهر موقف تل أبيب هو الرضا البالغ عن الاتفاق.

وقد تجدد، وربما تبلور أكثر، الحديث عن إمكانية بيع الغاز القطري إلى إسرائيل، في لقاء بين جاسم وبيريز، ومعهما وزير الطاقة والبنية التحتية موشيه شاحاك في يناير 1995، وكان هناك جهد في ذلك الوقت من قطر، لتنمية حقول الغاز الطبيعي في راس لافن والحقل الشمالي، الموجود على بُعد 90 كم شمال الدوحة، والمتاخم لإيران، والذي تبلغ مساحته 6000 كم مربع، ويقدر حجم الغاز الطبيعي فيه بـ25 تريليون متر مكعب، وجرى الحديث عن زيادة إنتاجه حتى 30 مليون طن سنوياً، وشكّك كثيرون في قدرة قطر على هذا التطوير، لما يحتاجه من استثمارات وإمكانات، وعند هذه النقطة جاء دور إسرائيل.

يقول سامي ريفيل: «جاءت الاتصالات المتلاحقة مع إسرائيل كجزء من جهود قطر لجذب الانتباه العالمي إلى هذا المشروع، الذي يتم التخطيط له، بهدف تشجيع الاستثمارات الأجنبية، وإيجاد شراكات مع كيانات اقتصادية ضخمة متعددة الجنسيات، في مجال النفط والغاز الطبيعي، ومن أجل العثور على مستهلكين كبار وعلى مدى طويل، لكميات الغاز الهائلة الموجود في باطن الأرض، وفتحت الاتصالات مع إسرائيل الباب أمام آمال توصيل الغاز إلى دول أخرى في حوض البحر المتوسط وأوروبا أيضاً، ثم طرح أفكار لمد أنابيب إلى قبرص وتركيا وأوروبا الغربية».

مبالغات في الطموح

لقد كان ريفيل دقيقاً حين وصف تلك المرحلة في العلاقة بين إسرائيل وقطر بمرحلة «المبالغات في الطموح» من قبل الطرفين. فقطر تخيلت الصفقة بمثابة بوابة لها لاختراق كل البوابات، من أميركا حتى أوروبا مروراً بحوض المتوسط، خصوصاً أن شركة آنرون الأميركية المتنفذة آنذاك، هي التي كانت ستتولى الصفقة، وفي طريق ذلك الطموح داست قطر على كل الاعتبارات، كقرارات المقاطعة العربية، أو الموقف الخليجي الرافض، أو الموقف الداخلي المعارض، أو التوازنات العربية، بينما رأت إسرائيل في الصفقة «فرصة العمر» لإحداث الاختراق إلى قلب المجتمع العربي، وهي التي ظلت منذ إنشائها تعاني عدم القدرة على التمهيد له.

ويرى ريفيل أن أهمية مشروع الغاز القطري تتجاوز أبعاده الاقتصادية، إلى لعب دور رأس جسر لدفع العلاقات بين قطر وإسرائيل كمحفز لتعميق العلاقات في مجالات حيوية لاستقرار وازدهار المنطقة، بحسب مفردات الدبلوماسي الإسرائيلي.

ويتابع ريفيل المحطة الثالثة والحاسمة في قصة الغاز القطري مع إسرائيل، التي اتضحت ملامحها في تصريح حاكم قطر بعد ثلاثة أشهر فقط من الانقلاب، الذي قام به ضد والده، لمحطة «إم.بي.سي»، حيث أكد «وجود خطة لمشروع غاز بين قطر وإسرائيل»، يمكنها أن «تحقق تقدماً ملموساً»، ومعرباً في التصريح نفسه عن أمله في «إنهاء الحصار العربي الاقتصادي لإسرائيل»، وهو تصريح بحسب ريفيل «جسد إشارة واضحة للفريق الذي يتولى متابعة العلاقات القطرية الإسرائيلية، إلى أن الدوحة وتل أبيب على مشارف مرحلة مهمة من العلاقة بينهما». ويستطرد ريفيل في الجزء الأخير من الفصل المخصص لصفقة الغاز، في نقل تفاصيل بل طقوس احتفالية توقيع مذكرة التفاهم على نقل الغاز بفندق بورتوغراندا، بلهجة لا تخلو من فخر، حيث «جاء وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم، مرتدياً ثوبه الأبيض الناصع، الذي يعد الزيّ التقليدي للرجال في دول الخليج العربي، وغترته الموشاة بخيوط حمراء وبيضاء»، و«حيث تم رص صفوف عدة من المقاعد في الصالة، من اجل عشرات المشاركين، الذين وفدوا من مختلف أنحاء العالم، ولم يتركوا مقعداً واحداً خالياً». وقد نص الاتفاق الذي وقعه وزير الطاقة الإسرائيلي آنذاك جونين ساجيف، ونائب رئيس شركة آرنون الأميركية ريبكا مارك، على أن «فرع شركة آنرون في قطر، سيحصل على حقوق الغاز الطبيعي المستخرج من الحقل الشمالي القطري، وأن الطرفين سيتفاوضان بروح طيبة للتوصل لاتفاق لبيع الغاز بصفة نهائية إلى إسرائيل».

ويصف ريفيل ما حدث باعتزاز شديد كإسرائيلي بقوله «لقد أدى التوقيع على مذكرة التفاهم إلى جعل قطر أول إمارة خليجية تتخذ خطوة علنية وواضحة أمام العالم كله، للانشقاق على الحظر الاقتصادي العربي المباشر المفروض على إسرائيل».

ويعترف ريفيل بأن العرس الإسرائيلي القطري قد حاصرته المنغصات منذ اللحظة الأولى لانطلاقه.

فقد بدت المعارضة العربية الخليجية للتوجه القطري واضحة، حيث صرّح وزير التجارة السعودي وقتها أسامة بن جعفر آل فقيه، بعدها مباشرة بأن «بلاده مستمرة في التمسك بفرض الحظر التجاري المباشر على إسرائيل، حتى يتم التوقيع على اتفاق سلام يشمل سيادة عربية على القدس الشرقية، ورقابة دولية على البرنامج النووي الإسرائيلي»، في إشارة واضحة منه لرفض الرياض تطبيع الدوحة لعلاقتها مع إسرائيل، رغم رفض الأخيرة للسلام أو قبول الرقابة على منشآتها النووية.

وقد اضطرت قطر، بسبب الردود الخليجية والعربية المتصاعدة، للتراجع ولو ظاهرياً في لحظة التوقيع نفسها، حيث حرصت، كما يورد صاحب المذكرات، «على خفض مستوى حضورها الرسمي في الحفل الذي أقيم بمناسبة التوقيع، وامتنع المسؤولون القطريون عن دخول الصالة ذاتها التي وقعوا بها مذكرة التفاهم، وقام كبير مستشاري الخارجية القطرية فواز العطية، بتمثيل قطر بدلاً من حضور وزيري الخارجية والطاقة، رغم التزام إسرائيل بحضور وزيرين للحفل»، كما «بدا فواز العطية مضطرباً تماماً حين واجه الصحافيين والحضور عند دخول القاعة، حتى إنه سار بين الصفوف، وجلس على مقعد خال في صف خلفي، في حين كان المفترض أن يجلس على المنصة الرئيسة التي تتصدر القاعة».

وعلى الرغم من إحساس ريفيل بالمرارة من الخوف والحذر واللعثمة التي أصابت قطر، والتي وجدت نفسها في «مركز عاصف»، بتعبير الدبلوماسي الإسرائيلي، وعلى الرغم من نقاشات الجدوى الاقتصادية التي أحاطت بالاتفاق، إلا أن ريفيل يخلص إلى أن جوهر الموقف الإسرائيلي هو الرضا البالغ عن الاتفاق، بما يؤكده تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك شيمون بيريز، الذي قال فيه إن «المسيرة السياسية مع قطر بدأت في التقدم خطوات صغيرة عدة، لكنها ستؤدي إلى منظومة علاقات جيدة»، وقد تحققت توقعات بيريز بجلاء بعد فترة ليست بعيدة، «حين هبط وزير الإعلام القطري عبدالعزيز حمد الكواري، إلى إسرائيل، ليمثل حكومته للمشاركة في جنازة رابين في نوفمبر 1995».

تويتر