قطر تبني قوّتها الناعمة على حساب أمن واستقرار جيرانها (2 ــ 2)

علاقات الدوحة الدولية تمنحهـــــــا قوة زائفة.. وليست حصانة

صورة

تولّى تميم بن حمد آل ثاني منصبه في عام 2013 عندما تنحّى والده حمد. إن نظريات المؤامرة التي تقول إن الأخير اضطر للتخلي عن الحكم غير مقنعة، لأنها لا تفتقر إلى أي دليل فحسب، بل تتجاهل تاريخ حمد الراسخ، المتمثل في مقاومة الضغوط الخارجية. لكن بعد مصارعة مع السياسة الإقليمية دامت ربع قرن، كان من المرجح أن يتخلى حمد عن السلطة، من أجل إظهار أن التحولات السلمية ممكنة، وإظهار أن الأجيال الشابة بحاجة إلى التمكين، وفي ظل بعض المخاوف الصحية، فضّل التقاعد. ومع ذلك، يقال إن حمد لايزال يدير قطر من وراء الكواليس، وتكثر التساؤلات باستمرار حول ما يفعله بالضبط في هذه الأزمة.

لم يغيّر تميم موقف قطر، وكان من الصعب عليه القيام بذلك في البداية. كان حمد، بعد كل شيء، الرجل الذي أنشأ الدولة القطرية الحديثة. وفي غضون ثمانية أشهر من تولّي السلطة، أدرك تميم مدى غضب جيرانه عندما سحبت السعودية والبحرين والإمارات سفراءها من الدوحة، في فبراير 2014، احتجاجاً على سلوك الدوحة. ورافقت هذه التصريحات الدبلوماسية قصصاً في وسائل الإعلام العربية، مثل احتمال اللجوء إلى خيارات تصعيدية شملت إغلاق الحدود البرية الوحيدة في قطر، مع المملكة العربية السعودية. كانت هذه حلقة صادمة جداً، وأعلن الجيش القطري حالة تأهب قصوى استعداداً لمزيد من التصعيد.

استغرقت المفاوضات تسعة أشهر، وتم التوصل إلى اتفاق في خريف 2014. ولم يكن أيٌّ من الطرفين سعيداً في نهاية المطاف. في حين عقدت القمة المقررة منذ زمن طويل في الدوحة في ديسمبر 2014، وكانت قصيرة ولم تحمل أي جديد. وكانت الدلائل العملية على الاتفاق هي طرد كبار أعضاء جماعة الإخوان المسلمين المقيمين منذ فترة طويلة في قطر. من الناحية النظرية، وقد وافقت الحكومية القطرية على عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وتخفيف تغطية «الجزيرة» الصاخبة لأحداث مصر. ولم يكن هناك ما يدل على أن الدوحة غيرت توجه سياستها الخارجية بعيداً عن دعم الإسلاميين، الذي كان مطلباً أساسياً من طرف شركائها في مجلس التعاون الخليجي. ومع ذلك، يبدو أن قطر التي شاركت في العمليات العسكرية التي قادتها السعودية والإمارات في اليمن أرادت التأكيد أنها كانت تحاول إظهار عودتها مجدداً إلى الصف الخليجي، وأنها عضو يقوم بواجباته لتحقيق السياسات الخليجية والوقوف في وجه التهديدات المحدقة.

مفاجأة يونيو

قوة اقتصادية واجتماعية

لقد تأسس مجلس التعاون الخليجي منذ عقود، وأظهر أنه كتلة اقتصادية واجتماعية يمكنها الاستمرار في وجه التحديات التي واجهت المنطقة والعالم. وفي زمن التحديات الأمنية الخطيرة يتعين على التكتلات السياسية والاقتصادية القوية أن تتجنب الخلافات، وتسعى كل دولة إلى ضمان استقرارها، وعدم الخوض في أمن جيرانها، وإثبات أنها شريك موثوق به لا يمكن أن يفتح الباب الخلفي لأيٍّ من الخصوم السياسيين في المنطقة أو غيرها.


• يبدو أن قطر التي شاركت في العمليات العسكرية التي قادتها السعودية والإمارات في اليمن أرادت التأكيد أنها كانت تحاول إظهار عودتها مجدداً إلى الصف الخليجي، وأنها عضو يقوم بواجباته لتحقيق السياسات الخليجية والوقوف في وجه التهديدات المحدقة.

• لم يغيّر تميم موقف قطر، وكان من الصعب عليه القيام بذلك في البداية. وفي غضون ثمانية أشهر من توليه السلطة، أدرك مدى غضب جيرانه عندما سحبت السعودية والبحرين والإمارات سفراءها من الدوحة، في فبراير 2014، احتجاجاً على سلوك الدوحة.

• ظاهرياً، خفّفت حركة «حماس» من بنود ميثاقها بشكل طفيف في أبريل الماضي، وانسحبت جبهة النصرة من انتمائها إلى تنظيم «القاعدة» في يوليو 2016. إلا أن التنظيمين لايزالان بعيدين كثيراً عن الاعتدال، بالنسبة إلى الكثير إن لم يكن غالبية المراقبين، خصوصاً في ما يتعلق بجبهة النصرة أو ما يسمى «جبهة فتح الشام» حالياً. ولا تستطيع الدوحة أن تفسّر هذه المشكلة التي تعتبر مسؤولة بشكل أو بآخر عن صنعها.

• بالنظر إلى الفوارق في الحجم بين قطر والدول الأخرى، فإن مهمة الجيش المحلي تبدو صعبة للغاية وباهظة الكلفة بشكل غير ملائم، كما أن عدم وجود العنصر البشري بما يكفي لسد حاجيات القوات البرية، بشكل خاص، يعقّد الأمور.

فوجئ القطريون عندما أعلنت السعودية والإمارات والبحرين ومصر عن مقاطعة دبلوماسية وجوية وبحرية، لم يسبق لها مثيل، وكان ذلك في السادس من يونيو الماضي. وقد تكون التقارير عن قيام قطر بدفع ما يصل إلى مليار دولار لعودة الرهائن القطريين المحتجزين من قبل ميليشيات شيعية في جنوب العراق، القطرة التي أفاضت الكأس. كما أن زيارة ترامب الداعمة للغاية للسعودية، في مايو، باعتبارها أول رحلة خارجية له، شجعت الرياض وحلفاءها على الأرجح، على التحرك. ومع ذلك، فإن الإجراءات المتخذة ضد قطر تظل قوية للغاية ولم يسبق لها مثيل.

وتقدم هذه التطورات تذكيراً لقطر بأنها تواجه تدابير صارمة وحقيقية من قبل جيرانها المباشرين، وانتقل تحذير 2014 إلى إجراءات عملية على أرض الواقع. لم يكن القطريون يظنون يوماً أن البلدان الخليجية ستقوم بما قامت به. إن مواجهة عزلة مفاجئة من الجيران المباشرين هو سوء حظ، بالتأكيد، لكن هناك نوع من اللامبالاة من قبل الدوحة وعدم تقدير للعواقب. ومن المؤكد أن القيادة القطرية لن تفاجأ مرة أخرى. ويترتب على هذه العزلة آثار مهمة على كيفية ضمان دولة قطر لأمنها.

وعلى الرغم من أن تميم صرف الكثير من المال على الجيش القطري، في الآونة الأخيرة، إلا أنه لم يجنِ بعدُ ثماراً ملموسة. وتشير التقارير إلى أن عمليات نشر القوات القطرية في اليمن اقتصرت على الحدود السعودية اليمنية، وليس هناك ما يشير إلى أن مساهمة قطر كانت أكثر من رمزية. وقد يضاعف تميم جهوده لبناء جيش قطري فعال، وربما حتى باستخدام إسرائيل - وهي دولة صغيرة ترى نفسها محاطة من قبل دول غير صديقة - كنموذج. ولكن بالنظر إلى الفوارق في الحجم بين قطر والدول الأخرى، فإن مهمة الجيش المحلي تبدو صعبة للغاية وباهظة الكلفة بشكل غير ملائم. إضافة إلى ذلك، فإن عدم وجود العنصر البشري بما يكفي لسد حاجيات القوات البرية، بشكل خاص، يعقّد الأمور.

وهذا يعني أن تميم سيحتاج إلى الاعتماد على الطريقتين المتسقتين اللتين تتجليان في مقاربة قطر الحديثة لأمنها: علاقاتها الأميركية المتمحورة حول قاعدة «العديد»، إضافة إلى توفير شكل من أشكال الأمان يعتمد على شبكة قطر العميقة من العلاقات الدولية والتجارية.

ويعقد الوزراء القطريون اجتماعات مستمرة في العواصم الرئيسة في جميع أنحاء العالم لحشد الدعم. وتعوّل الدوحة على استمرار تدفق الأموال عليها، وتستبعد في الوقت الحالي حدوث أي انقطاع، وتقول إن الترويكا لا تستطيع قطع إمداداتها المالية - عائدات النفط والغاز - دون التسبب في انقطاع كبير في الطاقة عن دول، مثل الصين والمملكة المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية والهند. وترى أن علاقاتها مع تركيا ستكون حاسمة كمصدر للواردات، كما أن إيران ستستفيد أيضاً في هذا الصدد.

دعم مادي وإعلامي

إن قطر بحاجة إلى التركيز على علاقاتها مع أميركا، لكن هناك مشكلتين عندما يتعلق الأمر بالحكومة الأميركية: الأولى تتعلق بمساعي قطر في مكافحة تمويل الإرهاب، والدعم المادي والإعلامي للجماعات التي ينظر إليها على أنها متطرفة.

لقد تحسنت العلاقة مع واشنطن نسبياً في السنوات الأخيرة، كما انضمت الدوحة مع دول أخرى إلى مجموعة من المبادرات الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب، لكن على الرغم من ذلك فإن قطر لا تتجاوب بشكل صريح عند مناقشة ما تمارسه من نشاطات. وبغض النظر عن ذلك، يمكن لقطر، بل ينبغي لها، أن تفعل المزيد عندما يتعلق الأمر بوقف تمويل الجماعات الإرهابية.

إن طريقة عمل قطر المرتكزة على توجيه الدعم عبر الجماعات الإسلامية هي أيضاً مقلقة، في كثير من الأحيان. وتعتبر الدوحة مؤيداً علنياً لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، المجموعة الفلسطينية التي تعتبرها الولايات المتحدة منظمة إرهابية. وبالمثل، فإن ارتباطها بجبهة النصرة (التي تسمى الآن جبهة فتح الشام) يلقي مزيداً من الأوصاف على قطر، باعتبارها مؤيداً للتطرف. ومنذ الأيام الأولى من الأحداث في سورية، قبل أكثر من ستة أعوام، دخلت قطر على الخط واختارت الطرف المناسب لدعمه. وتبرر الدوحة سبب احتفاظها بهذه العلاقات، ليس بسبب أن نخبها ترغب في دعم التطرف أو تشجيعه؛ بل لرغبتها في تغيير سلوك هذا النوع من التنظيمات، وهو ما اعتبره مسؤولون قطريون.

«استراتيجية عملية»

ظاهرياً، خففت حركة «حماس» من بنود ميثاقها بشكل طفيف في أبريل الماضي، وانسحبت جبهة النصرة من انتمائها إلى تنظيم «القاعدة» في يوليو 2016. إلا أن التنظيمين لايزالان بعيدين كثيراً عن الاعتدال، بالنسبة إلى الكثير إن لم يكن غالبية المراقبين، خصوصاً في ما يتعلق بجبهة النصرة أو ما يسمى جبهة فتح الشام حالياً. ولا تستطيع الدوحة أن تفسر هذه المشكلة التي تعتبر مسؤولة بشكل أو بآخر عن صنعها.

وهكذا، في حين أن قطر يمكنها فعل، بل ويتوجب عليها أن تفعل أكثر من ذلك، فمن المشروع انتقاد أسلوب عملها، ومطالبتها بالكف عن تمويل الإرهابيين في الخليج وخارجه. أولئك الذين لديهم خبرة في الخليج يفهمون جيداً ما تفعله قطر إزاء هذه المسألة وما لا تفعله. وهذا يشمل وزير الخارجية ريكس تيلرسون منذ أن عمل على رأس شركة «اكسون موبيل»، ووزير الدفاع جيمس ماتيس منذ أن كان يشغل قيادة القوات الأميركية في الشرق الأوسط. ويحاول كل من تيلرسون وماتيس التخفيف من التوتر المتزايد في المنطقة.

لكن الرئيس دونالد ترامب لديه موقف واضح ومختلف إزاء الأزمة في الخليج. وبصرف النظر عن التعاملات التجارية مع المملكة العربية السعودية وغيرها من بلدان المنطقة، فإن لديه القليل من المعرفة في المنطقة. ومع ذلك، كان من المؤيدين لحلفائه في المنطقة بوصف قطر داعماً للإرهاب، ووقف إلى جانب من يتهمون الدوحة بأنها المتسبب الأول للمشكلات في المنطقة، وأنها المشكلة الإقليمية الأساسية، وتزامن ذلك مع تقارير صحافية تفيد باحتمال نقل قاعدة «العديد» من الأراضي القطرية إلى مكان آخر.

وفي حين أن هذه الخطوة قد تكون صعبة على المنظور القريب، فقد أثبت ترامب أن سياسته نادراً ما تقيدها هذه المخاوف الثانوية. ومن المؤكد أن قطر ستشتري المزيد من المعدات الأميركية قريباً، إذ يقوم القطريون حالياً ببناء مدرج جديد في «العديد» لجعل القاعدة أكثر أهمية وأكثر صعوبة للنقل إلى مكان آخر. وفي هذا الصدد، تحتاج قطر إلى إعادة تشكيل نهجها في العلاقات العامة في واشنطن.

بلد ضعيف

لم يكن تأمين قطر أمراً سهلاً أبداً، فقد كان هذا البلد دائماً ضعيفاً نسبياً، ويعتمد على الآخرين لضمان أمنه. وأهم عنصر دعم لأمن قطر هو الولايات المتحدة، وآخرها جاء من بقايا الإمبراطورية العثمانية. وكان ابتكار الأمير حمد قد تمثل في تنويع المصادر التي يمكن للدوحة الاعتماد عليها، استناداً إلى الغاز الطبيعي المسال، لضمان استمرارية أمن واستقرار ورخاء دولة قطر، الذي يكتسب أهمية استراتيجية لمجموعة من الدول الرائدة في العالم. إلا أنه خلال الربيع العربي، تجاوزت قطر الحدود وكسرت كل الأعراف.

وقد حاولت قطر زيادة أهميتها لدى مجموعة أخرى من الدول، وفشلت مراراً في تحقيق أهدافها وأثارت سياستها غضب أقرب حلفائها الإقليميين في هذه العملية. وأدى ذلك إلى احتقان سياسي وإقليمي في عام 2014 لايزال قائماً إلى اليوم.

لقد هزت المقاطعة الحالية قطر، ولكن أساليب الأخيرة المزدوجة لضمان أمنها هي التي سادت حتى الآن، وإن كانت تمارسها بقلق واضح. وعلمت الحكومة القطرية، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الحقيقة لا علاقة لها بلغة الخطاب. فبالرغم من أن قاعدة «العديد» قد تكون مرفقاً لا غنى عنه بالنسبة للولايات المتحدة، حالياً، وبالرغم من أن الدوحة وقعت معاهدة متعلقة بمكافحة تمويل الإرهاب؛ فإن قطر قد خسرت معركة الإقناع بشكل شامل، ما دفع ترامب إلى مهاجمتها.

وبإمكان ترامب أن يتدخل مرة أخرى، وفي أي وقت، ليلحق ضرراً شديداً بالدوحة.

ويحتاج التواصل الاستراتيجي القطري مع العالم إلى إصلاح عميق، خصوصاً أن مجموعة واسعة من الدول في جميع أنحاء العالم، تعتمد على قطر مصدراً لإمدادات الطاقة، وهي بالتالي لا تريد مقاطعة كاملة مع الدوحة، لأن الأخيرة قد تعيق وصول إمدادات النفط والغاز، في المستقبل. ومع ذلك أسهمت العلاقات الجيدة مع تركيا وإيران للدوحة بالتعويض عن العديد من الواردات التي كانت تأتي من قبل السعودية والإمارات، ولكن لاتزال هناك مشكلتان.

أولاً: تستطيع قطر تجاوز جيرانها المباشرين، ولكن لا يمكن تجاهل أن الحدود البرية السعودية مع قطر كانت مشغولة جداً بالحركة التجارية، وأن ميناء جبل علي في دبي يأتي في المركز الأول لإعادة التصدير في المنطقة. وأن سد الطريق أمام قطر سيكلفها كثيراً لسد فجوة النقص في الإمدادات عبر هذين المرفقين.

ثانياً، هناك مسائل لوجستية حقيقية، ولن يكون من السهل استبدال طريق سريع متعدد المسارات من وإلى المملكة العربية السعودية بميناء الدوحة الصغير. لأنه سيخلق اختناقات باهظة الثمن بسبب الحركة الملاحية الكثيفة، ويمكن اللجوء إلى هذا البديل، على الأرجح، ولكن هذا لا يعني أنه ينبغي القيام به.

وفي نهاية المطاف، تحتاج قطر وجيرانها إلى المصالحة والتوافق. وهذا الشرخ ليس في صالح أي من الأطراف المختلفة. إن قطر ستعيد النظر في عداء جيرانها، مع الأخذ في الاعتبار مدى قدرتهم على رد الفعل، وستدرك أن علاقاتها الدولية تمنحها القوة الزائفة، ولكن ليست الحصانة. كما يتعين التفكير في صياغة سياسات جديدة، لذلك يجب أن يكون هناك حل توفيقي يشارك فيه جميع الأطراف. وستعمق قطر بقوة علاقاتها مع الولايات المتحدة وبلدان أخرى، والواقع أن الأشياء التي توحد دول الخليج أكثر من تلك التي هي محل خلاف، وأن هذه البلدان بحاجة إلى إيجاد طريقة عملية معاً.

تويتر