تمارس سياسة خارجية فردية واستفزازية منذ فترة طويلة

قطر تبني قوّتها الناعمة على حساب أمن واستقرار جيرانها (1-2 )

صورة

منذ القدم تساءل الخبراء عن كيفية توفير الدول الصغيرة لأمنها القومي. تعددت وجهات النظر في الولايات المتحدة وغيرها، إلا أن هناك نظرة عالمية، مثل تلك التي قدّمها وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر، بأن الدول الصغيرة تحتاج إلى أن تكون حذرة بشكل خاص. وتشير الحقائق السياسية إلى أن ذلك قد يكون صحيحاً؛ فالدول التي تمتلك الأراضي، وعدداً أكبر من السكان وجيشاً أكبر حجماً، هي بالطبع أكثر قوة. وهكذا، سيكون من الحكمة لدولة صغيرة العثور على قوة أكبر لحمايتها، وألا تعمل ضمن مجموعة من القواعد المحظورة إقليمياً، وألا يتعارض نشاطها وطموحاتها مع جيرانها، خصوصاً إذا كانت الدول المحيطة بها أكبر وأقوى بشكل واضح.

• ظل الانطباع الذي جسّده شعور ضمني أن قطر محصّنة من عواقب أفعالها سائداً لفترة طويلة، ما دفعها للتحليق قريباً جداً من الشمس، كما لو كانت تختبر حدودها.

• أدرك خليفة بن حمد أن أفضل وسيلة لضمان أمن قطر هي من خلال عدم الظهور، واتباع «استراتيجية الانضمام»، التي تركزت على مسايرة مواقف الدول المجاورة في ما يخص العلاقات الخارجية القطرية، وعدم التدخل في أي تشابكات أجنبية استفزازية، والتركيز على التنمية المحلية.

• الولايات المتحدة قدمت الدعم الأساسي لتمكين قطر من تنفيذ مجموعة من السياسات غير العادية والمثيرة للجدل، لكن قناة الجزيرة كانت في صلب الخلاف دائماً، مع الإدارات الأميركية المتعاقبة، التي كثيراً ما رأت في المحطة منتجاً للدعاية الموالية للمجموعات الإرهابية.

• بعد عقود من التركيز على العلاقات القطرية في جميع أنحاء العالم، لا تستطيع قيادة الدوحة أن تفلت من الجغرافيا، والحاجة إلى استنباط أسلوب ملائم مع أقرب جيرانها الثلاثة.

وإذا غامرت دولة صغيرة في السياسة الإقليمية الصعبة، وفقاً لنموذج إسرائيل، فالخيار هو تطوير قدرات عسكرية فعالة تكون نداً للند في مواجهة جيرانها.

إن دراسة كيفية تأمين دولة قطر لنفسها كدولة صغيرة في منطقة متقلبة تخالف هذا المنظور. ومع ذلك، ظلت قطر، لفترة من الوقت، تمارس سياسة خارجية فردية واستفزازية. والسبب في ذلك ليس غامضاً، فقد سعت هذه الدولة الصغيرة منذ فترة طويلة إلى إيجاد علاقة أساسية مع قوة مهيمنة لدعم أمنها. واليوم، تلعب الولايات المتحدة هذا الدور.

إن الحجم الهائل لقاعدة «العديد» الجوية، المستخدمة من قبل الولايات المتحدة، ونطاقها وأهميتها، كان له علاقة عكسية بشأن قدرة الولايات المتحدة على السيطرة على قطر، طبقاً لهذه النظرية، بشكل مثير للسخرية، ففي بعض الأحيان كانت الدولتان تتصرفان كما لو كانتا في زواج غير توافقي، وأُجبرتا على التعايش في انتظار المستقبل المنظور. مع العلم بأن الطلاق ليس خياراً، إذ إنه بعد أن أقامت الدوحة ما يسمى «دولة الرفاهية الأكثر سخاءً على الأرض»، اغتنمت القيادة القطرية الفرصة للمشاركة في مجموعة من العلاقات الخارجية غير العادية والاستفزازية في جميع أنحاء المنطقة.

وقد ظل الانطباع الذي جسّده شعور ضمني أن قطر محصّنة من عواقب أفعالها سائداً لفترة طويلة، ما دفعها للتحليق قريباً جداً من الشمس، كما لو كانت تختبر حدودها. وبعد عقود من التركيز على العلاقات القطرية في جميع أنحاء العالم، لا تستطيع قيادة الدوحة أن تفلت من الجغرافيا والحاجة إلى إعادة التركيز على استنباط أسلوب ملائم مع أقرب جيرانها الثلاثة.

نهج تصالحي

أشرف الأمير أحمد بن علي آل ثاني على استقلال قطر في عام 1971 من جناحه في فندق بمدينة جنيف السويسرية، ولم يكلف نفسه عناء العودة إلى الدوحة والقيام بذلك، وهو ما يفسر لماذا قام خليفة بن حمد آل ثاني بانقلاب ناعم، خلال ستة أشهر، وقد تم قبول خليفة بسرعة كأمير جديد. ومع وجود دولة ميسورة الحال لكنها ضعيفة عسكرياً، اتخذ خليفة نهجاً تصالحياً في السياسة الإقليمية. وأدرك الأمير الجديد حينها، أن أفضل وسيلة لضمان أمن قطر هي من خلال عدم الكشف عن هويته، وكما يعرف في سياق أدب العلاقات الدولية باستراتيجية الانضمام، التي تركزت على مسايرة مواقف الدول المجاورة في ما يخص العلاقات الخارجية القطرية، وعدم التدخل في أي تشابكات أجنبية استفزازية، والتركيز على التنمية المحلية.

وبحلول عام 1985، كان ابن خليفة وولي العهد، حمد بن خليفة آل ثاني، قد اكتسب نفوذاً مهماً في الدوحة. ومع نهاية العقد، قال دبلوماسيون في قطر إنه كان يدير البلاد بالفعل، وإن أيام مرحلة خليفة قد انتهت بحكم الأمر الواقع. وتزامن صعود حمد مع عهد جديد في العلاقات الخارجية لدولة قطر، إذ استخدمت الأخيرة ولاية الرئيس الإيراني علي أكبر هاشمي رفسنجاني في خفض التوترات العربية الإيرانية، لتحسين علاقات الدوحة مع طهران، ولكن حمد ذهب أبعد من معظم دول الخليج في سعيه لبناء خط أنابيب من جبال «قارون» الإيرانية لجلب المياه العذبة إلى قطر.

وبالمثل، استغل حمد لحظة الانفراج في الفترة التي سبقت انعقاد مؤتمر السلام العربي - الإسرائيلي في مدريد عام 1991 لتعزيز العلاقات مع تل أبيب. ومرة أخرى، ذهب إلى أبعد من معظم دول الخليج، وبحلول عام 1996 أذن بإنشاء مكتب تجاري إسرائيلي في الدوحة.

كان ذلك يتعارض مع التوجهات الخليجية، إذ كانت قطر تتخذ قرارات مستقلة ومثيرة للجدل، ولم تستمع إلى المشورة من الرياض. ورفض حمد التراجع، ما أدى إلى تدهور العلاقات مع المملكة العربية السعودية. وبحلول عام 1992، اندلعت مناوشات حدودية. وفي 1995، تولى الأمير حمد الحكم في انقلاب. ودعمت الرياض ودول الخليج الأخرى عودة والده خليفة إلى الحكم؛ إذ لم يكن أحد يريد أن تقع سابقة في المنطقة بانقلاب ولد على أبيه.

في عام 1996، تأسست شبكة الجزيرة في قطر، لتعزيز قوة الدولة الناعمة، للانتقام من السعودية، وذلك من خلال استضافة المعارضين ومناقشة الشؤون السعودية الداخلية، الأمر الذي لم يسبق له مثيل في سياسات دول منطقة الخليج على الأقل، وأثار غضب القادة في الرياض بعمق. وكانت الأخيرة قد سحبت سفيرها من الدوحة في عام 2002، وأبقت الأمر على ذلك لمدة ست سنوات كوسيلة للضغط على قطر لتغيير سياستها.

خطوة مثيرة

وكان أساس هذه السياسات القطرية الاستفزازية العميقة اتفاق تعاون دفاعي أبرم عام 1992 مع الولايات المتحدة شمل استخدام الجيش الأميركي للقاعدة الجوية الواقعة على بعد بضعة أميال فقط من القصر الأميري في الدوحة. وكان استقبال القوات الأميركية في قاعدة العديد محل رفض من قبل جيرانها الخليجيين. وقد اعتبرت خطوة مثيرة، وقدمت لحكومة حمد إحساساً عميقاً بالأمن. وأضافت إلى ذلك اتفاقات دفاعية مع فرنسا والمملكة المتحدة، لتكون صفقة أمنية متنوعة.

لكن حمد لم يكن يريد ترك بيض الأمن القطري في سلة «العديد» فقط. وبدلاً من ذلك، شرع في نحو ربع قرن طويل من الحيلة لتعزيز قوة قطر الناعمة، ودمج أمنها وازدهارها في اقتصادات الدول الأكثر قوة في العالم. وقد وفرت الإمبراطوريتان العثمانية والبريطانية حماية شاملة لقطر في القرنين التاسع عشر والعشرين، لكنهما غادرتا في نهاية المطاف، وبالتالي سعت حكومة حمد إلى تنويع اعتماد قطر على الولايات المتحدة.

 تسخير روح العصروعوضاً عن التركيز على بناء القوات المسلحة القطرية من القاعدة، سعت الدوحة إلى تسخير روح العصر ما بعد الحرب الباردة، لتشكيل الدولة القطرية كوسيط في النزاعات، ورسم خط لها كقوة ناعمة في المجالات الرياضية والإعلامية والتعليمية، وكدولة تستمد قوتها من شبكة عالمية من العلاقات الدولية، عبر شحناتها من الغاز الطبيعي المسال إلى دول مثل المملكة المتحدة والصين، واليابان وكوريا الجنوبية.

وسعت قطر خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى بناء شخصية محايدة، ما يجعلها مهمة لمجموعة واسعة من البلدان قدر الإمكان. وقد نجحت في دمج نفسها في رابطة الطاقة بين بعض أقوى دول العالم، حيث قدمت للمملكة المتحدة ثلث وارداتها من الغاز الطبيعي المسال، والصين بنسبة الخمس.

على الرغم من أن الولايات المتحدة قدمت الدعم المركزي لتمكين قطر من تنفيذ هذه المجموعة من السياسات غير العادية والمثيرة للجدل، إلا أن قناة الجزيرة كانت في صلب الخلاف، دائماً، مع الإدارات الأميركية المتعاقبة، التي كثيراً ما رأت في المحطة منتجاً للدعاية الموالية للمجموعات الإرهابية، لكن لم تفلح الضغوط الأميركية في إجبار قطر على تغيير خطها التحريري.

توتر العلاقات

خلال السنوات الأولى من هذا القرن، توترت العلاقات بين البلدين بسبب قضايا تتعلق بالتأشيرات والاستخدام العسكري لقاعدة العديد، عكرت صفو التعاون الأميركي القطري. ولكن لم يكن هناك بديل لـ«العديد». وعندما اضطرت القيادة المركزية الأميركية وقيادة العمليات الجوية إلى مغادرة المملكة العربية السعودية في عام 2003، انتقلتا إلى قطر، ما زاد من أهمية الدوحة بالنسبة للولايات المتحدة، وبالتالي خطت قطر خطوة إلى الأمام في تنويع اعتمادها على الولايات المتحدة.

لم يغيّر صعود الأمير تميم من موقف الدوحة بشكل عام. إلا أن تميم عزز الإنفاق العسكري في وقت لا توجد إشارات تفيد بأن قدرات الجيش القطري قد تحسنت بالفعل. مازالت قطر تؤمن نفسها على خلفية قاعدة العديد ومجموعة متنوعة من الاعتماد المتبادل اقتصادياً.

شبكات متطرفة

تسبب ما يسمى بـ«الربيع العربي» في إحداث تغيير عميق في السياسة الخارجية لدولة قطر، إذ تحولت من دولة تسعى إلى إقامة علاقات مع جميع الأطراف في السياسة الإقليمية، إلى دولة توجه الدعم المادي والدبلوماسي والإعلامي للجهات المعارضة للحكومات في سورية وليبيا ومصر، وكثيراً ما كان دعم الدوحة يمر عبر الشبكات المتطرفة، وقد ظهر ذلك جلياً في أكثر من مناسبة.

كان الأمير حمد ومستشاروه أيضاً سعيدين بدعم وتمكين مجموعة واسعة من الإسلاميين، لأنهم يعتقدون أن الوقت قد حان كي يلعب تيار «الإسلام السياسي» دوراً في السياسة الإقليمية. ونتيجة لذلك، اعتقدوا أن دعم هذه الحركة في وقت مبكر، سيكون مقامرة سياسية لقطر ستتكلل بالنجاح.

وعلى صعيد الأمن الإقليمي، ظلت قطر آمنة في حضن الجيش الأميركي، وبدون أي مخاوف محلية، وراهن الأمير حمد على أمل ظهور نخب جديدة في المنطقة من خلال دعم «تحرير العرب» من أنظمة الحكم القائمة، وجني الثمار والفوائد لاحقاً، إلا أن هذه الخطة فشلت.

وبعد فوات الأوان، تم تحديد مشكلتين حرجتين.

أولاً، لم تدرك النخبة في قطر مدى صعوبة السيطرة على الوسطاء والمجموعات، الذين تدعمهم في الخارج. وعلى هذا النحو، قامت قطر - جنباً إلى جنب مع جهات فاعلة دولية أخرى - بدعم مجموعة من الجماعات والأفراد في سلسلة من الحروب الأهلية المنهكة، لاسيما في سورية وليبيا، إذ فشلت التحولات السلمية في جميع البلدان، باستثناء تونس. لقد أرادت قطر أن تصمم وضعاً يمكن أن تستفيد منه من أجل دعم انتقال سريع وسلمي، من الحكم القائم إلى نظام حكم جديد، يقوم على أسس مختلفة. وبدلاً من ذلك، طورت وبسرعة سمعة سيئة كجهة تتدخل في أماكن متفرقة، وتغذي الانقسام، وتمكّن الإسلاميين المتطرفين من جميع الأطياف.

ثانياً، أخطأت الدوحة في قراءة السياسة الإقليمية. ففي حين أن قطر قد تكون آمنة محلياً، يشعر أقرب جيرانها بقلق بالغ إزاء تشجيع وانتشار الإسلام السياسي. التصور في المنامة، عاصمة البحرين، هو أن شكلاً من أشكال الإسلام السياسي الشيعي يهدد بعمق تماسك الدولة، إن لم يكن السلطة نفسها. وقد عانت المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية من توترات وأعمال عنف لاتزال مستمرة، وتشير الرياض إلى وجود تدخل خارجي. في حين أن الإمارات العربية المتحدة، الدولة الآمنة والمستقرة، لم تثق يوماً بتيار الإسلام السياسي.

باتت طموحات الدوحة ودعمها لصعود الإسلام السياسي في المنطقة، يهددان أمن واستقرار بلدان المنطقة الخليجية، والمناطق الأبعد من ذلك.

تغطية مركزة

لقد كانت قطر، في ما يتعلق بالقيادات المتطرفة في المنطقة، تحفز على إيجاد مناخ أكثر تساهلاً لدعم هذا النوع من السياسة. وعلاوة على ذلك، سعت الدوحة بشكل مباشر إلى دعم «الإخوان المسلمين» في مصر، وأماكن أخرى في المنطقة. وحتى عندما تولى الرئيس عبدالفتاح السيسي الحكم، وأنهى الحكم الذي قادته جماعة الإخوان في يوليو 2013، سعت قناة الجزيرة إلى تقويض حكومته بشكل يومي، من خلال تغطيتها المركزة لأحداث مصر، وأدى ذلك أيضاً إلى غضب جيران قطر، الذين كانوا يعتقدون بأن حكم السيسي كان حاسماً في استقرار الشرق الأوسط بأسره.

لقد استمعت قيادة قطر منذ فترة طويلة إلى هذه الانتقادات، لكنها نادراً ما غيّرت سياستها، ورفضت مثل هذه المواقف. واستمرت «الجزيرة»، دون عوائق، في تقديم نظرة نقدية واستفزازية للسياسات الإقليمية، وإعطاء المجال على أساس منتظم لأولئك الذين يدعمون المواقف المتشددة والمناوئة، وشمل ذلك استضافة العديد من الشخصيات المثيرة للجدل، وإجراء مقابلات مع زعيم مجموعة سورية مرتبطة رسمياً بتنظيم القاعدة، هي جبهة النصرة.

تويتر