بعد أن كثر الحديث عن احتمال اندلاع الثالثة

الشعب الفلسطيني وحده من يحدد استعداده للانتفــاضة

صورة

في مقال بعنوان «الانتفاضة الثالثة»، نشره الصحافي توماس فريدمان، في فبراير الماضي، حاول الكاتب شرح اثنين من أبرز الأحداث اللاحقة في التاريخ الجماعي للشعب الفلسطيني، إن لم يكن في المنطقة كلها، فهو يقول «تساءلت لبعض الوقت لماذا لم تحدث انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية، حيث ساعدت الانتفاضة الأولى على تحفيز عملية أوسلو للسلام، والثانية، التي صاحبها المزيد من الذخيرة الحيّة من جانب إسرائيل، والعمليات الانتحارية من الجانب الفلسطيني، أدت إلى انهيار أوسلو».

نريد أن نؤكد هنا أن العوامل التي أدت إلى الانتفاضة الأولى في عام 1987 تضمنت حقيقة مهمة، هي أن الفلسطينيين انتفضوا ضد ثقافة نخبوية، تعمل من تونس، تزعم أنها تتحدث نيابة عن الشعب الفلسطيني، كانت عبارة عن زمرة صغيرة داخل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح، التي لم تكن تقيم في فلسطين، في الوقت الذي وقعت فيه الاتفاق السري المدمر في أوسلو في عام 1993، على حساب مطالب شعبها المشروعة من أجل الحرية، وحقق لهم هذا الترتيب عدد قليل فقط من الامتيازات. ولم تساعد الانتفاضة على «تحفيز عملية أوسلو للسلام»، لكن هذه العملية تم إقحامها بدعم وتمويل من الولايات المتحدة وغيرها، لسحق الانتفاضة.

تحليل الانتفاضة

من المثير للاهتمام أن أي أحد من الصحافيين لم يكن ليتنبأ أبداً بالانتفاضتين السابقتين، صحيح أنهم تنبأوا بالعنف إلى حدّ ما، لكن بالطبع ليس من السهل تحليل عمل جماعي لأمة بأكملها، معزولة بفواصل جغرافية وسياسية وحزبية، وليس من السهل تحليلها في مجرد بضع جمل، ناهيك عن القدرة على التنبؤ بها.


انتفاضة 1936

قاد الفلسطينيون انتفاضة في عام 1936 ضد حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين، عندما قام هذا الأخير بتمكين الصهاينة من إقامة «الدولة اليهودية»، وحرم الفلسطينيين من أي تطلع سياسي من أجل الاستقلال، وبالتالي عارض روح التفويض الممنوح له من الأمم المتحدة، وتحولت الانتفاضة إلى ثورة، وكان نتيجتها ازدياد الوعي السياسي بين كل شرائح المجتمع الفلسطيني، وتبلورت الهوية الفلسطينية، التي كانت موجودة منذ أجيال، في شكل من أشكال التماسك أقوى بكثير من أي وقت مضى.

وفي حين أن هناك بعض الحقيقة في أن الانتفاضة الثانية أدت إلى انهيار أوسلو، فإن منطق فريدمان يشير إلى مستوى من التناقض بشأن الشعب الفلسطيني وثوراته، يقول إنهم ثاروا من أجل إحلال السلام، ثم ثاروا مرة أخرى لتدمير ذلك. وبطبيعة الحال، فإن مداخلته التي ذكر فيها استخدام إسرائيل للذخيرة الحيّة خلال الانتفاضة الثانية (كما لو أن الآلاف من الفلسطينيين لم يتعرضوا للقتل أو أصيبوا بالذخيرة الحيّة في الانتفاضة الأولى)، وحديثه عن استخدام الفلسطينيين التفجيرات «الانتحارية» يجعل القارئ الجاهل يبرر لإسرائيل خيار الأسلحة.

وفقاً لمنظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية، (بتسيلم)، فقد تعرض 1489 فلسطينياً للقتل خلال الانتفاضة الأولى 1987-1993، من بينهم 304 طفلاً، وقتل فيها 185 إسرائيلياً، من بينهم 91 جندياً. وفي الانتفاضة الثانية استشهد أكثر من 4000 فلسطيني، وقتل أكثر من 1000 إسرائيلي، ووفقاً لمنظمة «بتسيلم»، فإن هذا الارتفاع الكبير في الوفيات والإصابات لم يتوقف مع حلول نهاية الانتفاضة الثانية في أواخر عام 2005. وفي خلال 10 أعوام بعد الانتفاضة الثانية، حسبما ذكرت المنظمة الإسرائيلية، فإن قوات الأمن الإسرائيلية قتلت 6371 فلسطينياً، من بينهم 1317 قاصراً، وعلى الأقل فإن 2996 من القتلى لم يشاركوا في الانتفاضة عندما قتلوا، كما استشهد 248 من الشرطة الفلسطينية في غزة خلال عملية الرصاص المصبوب، و240 كانوا هدفاً للاغتيال.

هناك تفاصيل أخرى مناسبة لهذه الأرقام، التي ستكون ضرورية لفهم طبيعة الثورات الشعبية الفلسطينية، ويأتي الضحايا من خلفيات متنوعة: مخيمات اللاجئين، والقرى والبلدات والمدن الصغيرة، وإلى أن شنّت إسرائيل الحرب المدمرة على غزة، 2008ــ2009، كانت أرقام الضحايا موزعة بالتساوي تقريباً بين غزة والضفة الغربية، وكان بعض الضحايا الفلسطينيين ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية. لقد استهدف الرصاص والقذائف الإسرائيلية مجموعة كاملة من الناس، بدءاً من المارة، إلى المتظاهرين غير المسلحين، وراشقي الحجارة، والمقاتلين المسلحين، ونشطاء المجتمع المحلي، والزعماء السياسيين، والقادة المتشددين، والرجال والنساء والأطفال، وهلمجرا.. وبشكل مأساوي، فإن ردود الفعل الإسرائيلية حيال الانتفاضات الفلسطينية هي أفضل شهادة على الطبيعة الشعبية للانتفاضة، ويدحض كل ادعاء القادة الإسرائيليين الذين يقولون إن الانتفاضات تم تنظيمها لأغراض سياسية محددة.

ولسنوات عديدة ظل العديد من الصحافيين يتساءلون أو يحالون الإجابة عن بعض الأسئلة بخصوص الانتفاضة الثالثة المتوقعة، بعضهم فعل ذلك بشكل جدي، وآخرون بشكل مضلل، كما هي الحال في تقرير «إن بي سي نيوز»، الذي جاء تحت عنوان «العنف الفلسطيني يستهدف الإسرائيليين: هل بدأت الانتفاضة الثالثة بالفعل؟»، بعض الجهات الإعلامية حادت عن الموضوعية، وخرجت بنتائج متضاربة، كما هي الحال في تقرير «سي إن إن» في القدس «الانتفاضة الذاتية» هي أبعد ما تكون عن انتفاضة. وفشل معظمهم، الذين انتهجوا نهجاً متغطرساً لفهم الهبّة الجماعية الفلسطينية، فشلوا في فهم ما هي الانتفاضة في المقام الأول.

حتى ذلك النهج المعقول الذي يفسر الانتفاضة بأنها غضب شعبي ناتج عن عدم وجود أفق سياسي ممكن، يبدو في بعض الأحيان مشوهاً عن غير قصد.

هناك العديد من الأحداث في الماضي التي لم تتصاعد بما فيه الكفاية لترقى إلى مستوى «الانتفاضة»، على الرغم من أنها كانت تهدف إلى توحيد مختلف قطاعات المجتمع الفلسطيني، على الرغم من أن السمة البارزة فيها هي الدرجة العالية من العنف، وفشلت، لأن الانتفاضة ليست دعوة للعنف يتفق عليها عدد من الناس يشكلون الكتلة الحرجة في هذا الحراك. الانتفاضات، على الرغم من أنها في كثير من الأحيان ترتكز بوضوح على مجموعة واضحة من المطالب، لا تقودها أجندة سياسية واضحة.

إذا بحثت من خلال المعادلة السياسية الجامدة، تجد أن انتفاضة 1936ــ1939 أصابها الفشل، لكنها نجحت في توحيد الهوية التي كانت مجزّأة عمداً أو بسبب الظرف السائدة. حققت الانتفاضتان في وقت لاحق نتائج مماثلة، حيث ساعدت انتفاضة 1987 على توحيد النضال الفلسطيني من قبل شباب يتمتعون بالحيوية يعيشون داخل فلسطين نفسها. ووحدت أكثر من ذلك هوية الشعب وفرضيتهم. وتحدت انتفاضة 2000 الوضع الشاذ التاريخي الذي خلقته أوسلو، تلك الاتفاقية التي أوجدت انحرافاً كبيراً في مسار المقاومة التي يوقد نارها كل جيل فلسطيني منذ عام 1936.

وعلى الرغم من أن الانتفاضات تؤثر في مسار السياسة، فإنها نادراً ما تعنى بالتصريحات السياسية في حدّ ذاتها، فهي غير معنية بصور التحقير التي يرسمها معظم الصحافيين والسياسيين، فهي عملية شاملة، واضحة المعالم تهدف، بغض النظر عن تأثيرها في الخطابات السياسية، إلى «زعزعة» وتحدي كل العوامل التي تسهم في قمع الأمة، فهي ليست معنية بالعنف «الذي يستهدف الإسرائيليين»، أو المتعاونين معهم بين الفلسطينيين، إنها صحوة تعمّ المجتمع بأكمله، مصحوبة بمحاولات مضنية لإعادة رسم جميع الأولويات كخطوة إلى الأمام على طريق التحرير، وبالنظر إلى المتغيرات العديدة على الساحة، فليس هناك غير الشعب الفلسطيني الذي يحدد ما إذا كان على استعداد للانتفاضة، لأن الانتفاضة تنتمي إليه هو وحده، ولا أحد غيره.

رمزي بارود - مستشار إعلامي، كاتب ومؤسس PalestineChronicle.com

تويتر