تتبنّى العقيدة العسكرية ذاتها منذ الحرب العالمية الأولى

الاستراتيجية الروسية في حلب اعــتمدت على الرعب والتدمير الكامل

صورة

تزعم موسكو أنها تقود حرباً حديثة وهادفة في سورية، لكنها في واقع الأمر تتبنّى الاستراتيجية السوفييتية المبنية على السحق الكامل لكل شيء، بما في ذلك المدنيون.

فظائع وجرائم

ارتكبت روسيا والجيش السوري والميليشيات الداعمة للنظام، فظائع وجرائم في حق الإنسانية، بمدينة حلب، وفقاً للأمم المتحدة. ويرى المستشار الخاص بسورية في المنظمة الأممية، يان إيغلاند، أن المسؤولية تقع على الحكومتين السورية والروسية، لما ترتكبه الفصائل المسلحة الموالية للأسد، في حلب، قائلاً: «حكومتا سورية وروسيا مسؤولتان عن كل الانتهاكات التي ترتكبها الميليشيات بحلب مع قصف قوات الأسد لآخر جيب للمعارضة في شرق حلب المحاصر».

أما المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، فيشير إلى تقارير غير مؤكدة عن ارتكاب فظائع ضد عدد كبير من المدنيين بالمدينة، بينهم نساء وأطفال، داعياً كل الأطراف الموجودة على الأرض إلى حماية المدنيين والالتزام بالقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان؛ مشيراً إلى أن المسؤولية تقع على النظام السوري وحلفائه، وفي مقدمتهم روسيا وإيران. ونقلت مصادر إعلامية قيام قوات النظام والميليشيات الموالية بقتل عدد كبير من المدنيين في أحياء المدينة الشرقية، مثل الفردوس والكلاسة.

التدخلات العسكرية الروسية في الخارج

1979: غزو أفغانستان:

كانت أهداف السوفييت دعم الحكومة الأفغانية الشيوعية، واستغلال الموارد الطبيعية للبلاد، ومنافسة الأميركيين على منابع النفط. وبعد 10 سنوات من المقاومة التي قامت بها فصائل محلية مسلحة، انسحب السوفييت وخسروا في المعارك نحو 50 ألف جندي.

1994: التدخل الروسي في الشيشان:

واجهت الآلة العسكرية الهزيمة بعد عامين، وأعلن استقلال جمهورية الشيشان عن روسيا الاتحادية، بعد توقيع الرئيس الروسي، بوريس يلتسين، إعلان وقف إطلاق النار. إلا أن روسيا عادت للتدخل في هذا البلد مجدداً والسيطرة عليه في 1999، وضمّه للاتحاد الفيدرالي الروسي.

1999: دخول قوات روسية إقليم كوسوفو، ومحاصرة مطار برشتينا.

والهدف هو مساندة الرئيس الصربي، سلوبودان ميلوسوفيتش، في مواجهة قوات تابعة للحلف الأطلسي وجيش تحرير كوسوفو. اعترف الروس بالخطأ وغادرت الوحدات العسكرية كوسوفو، مع إعلان موسكو استعدادها للمساهمة في تحقيق الاستقرار والأمن في هذا البلد.

2008: قوات روسية تجتاح جورجيا

بعد هجوم لقوات الأخيرة على أوسيتيا الجنوبية الموالية لروسيا، وخلال الاجتياح، تعرضت مدينة غوري ومطار مارنيولي العسكري ومرفأ بوتي للقصف، إلا أن الاجتياح لم يدم طويلاً.

2014: اجتياح الروس للأراضي الأوكرانية:

بعد سقوط الحكومة الموالية لموسكو في كييف، تدخل الجيش الروسي لحماية المواطنين الروس في شبه جزيرة القرم، لكن تلك القوات سيطرت على معظم المنطقة التي نظمت استفتاء أقرّ التبعية لموسكو، ما أثار حفيظة البلدان الغربية.

2015: فلاديمير بوتين يوافق على استخدام القوة العسكرية في الخارج ودعم الجيش السوري.

والهدف المعلن هو تقديم دعم جوي للقوات المسلحة السورية في معركتها ضد التنظيمات الإرهابية. إلا أن القصف الروسي المركّز لحلب ومدن أخرى، رجّح كفة النظام السوري ودمّر البنية التحتية للبلاد.

يقول الروس إن الحرب تشهد دائماً «متغيرات» مثل لعبة الشطرنج. وفي حلب وسورية، تتبنى روسيا العقيدة العسكرية السوفييتية، بشكل عام، التي تعود بدورها إلى فترة الحرب العالمية الأولى.

ببساطة، كما كان الحال في «فيردان» و«ستالينغراد» و«برلين»، يتم سحق الخصم - مهما كانت الكلفة البشرية - تحت وابل من القنابل والقذائف، وبعنوان «عواصف الفولاذ»، كما وصفها الكاتب الألماني إرنست جونغر، قبل زحف الجنود المشاة على الأرض، في هجوم أخير للقيام بـ«التنظيف» النهائي.

فبعد أن سوّى غروزني في الشيشان بالأرض، بواسطة المدفعية الثقيلة والطيران الحربي، الذي قام بقصف المدينة على نطاق واسع وعشوائي، في التسعينات من القرن الماضي، ها هو الجيش الروسي، بعد 20 عاماً، يُدعى لقيادة حرب «عالية التقنية» في سورية، في صراع فظيع مع بدايات القرن الـ21. لقد نشرت موسكو نحو 36 قاذفة قنابل، و20 مروحية هجومية، من الجيل الحديث أحياناً، لتقوم بـ40 طلعة جوية يومياً، في المتوسط، بكلفة قدرها نحو أربعة ملايين دولار في اليوم الواحد، كما أرسل الكرملين مستشارين عسكريين للعمل على الأرض.

قنابل عتيقة

بعض الخبراء يتعجبون، ويشيرون إلى أن الصراع السوري يبيّن كيف يتم تحديث الجيش الروسي، الذي يشرف عليه الرئيس فلاديمير بوتين، وأن هذا التحديث يتم بنجاح. ولإثبات ذلك يشير هؤلاء إلى الهجمات بصواريخ كروز (1.2 مليون دولار للصاروخ الواحد)، التي أطلقت على المقاتلين في سورية، انطلاقاً من الأسطول الروسي في بحر قزوين، في يوم عيد ميلاد بوتين، لكنهم نسوا أن معظم هذه الصواريخ قد أخطأت أهدافها، في حين سقط أربعة منها في إيران.

في الوقت ذاته، تفتخر روسيا بأنها تدير حرباً «عالية الدقة» في سورية، تعادل من الناحية الفنية على الأقل حملة أميركية مماثلة. إلا أن موسكو استخدمت، في الواقع، عدداً قليلاً جداً من الأسلحة ذات التقنية العالية. وتقليداً للولايات المتحدة، بثت روسيا مقاطع فيديو وصوراً التقطتها الأقمار الاصطناعية لما يسمى ضرباتها «الجراحية»، على «تويتر» و«فيس بوك».

باستثناء الهجمات الصاروخية من الغواصات في بحر قزوين، فإن أغلب القذائف التي أسقطت على سورية هي من المخزون السوفييتي القديم، وهي غير موجهة؛ فموسكو تمتلك كميات كبيرة من هذه الأسلحة العتيقة. وخلافاً للصور التي نشرت في الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، لا يمتلك الجيش الروسي سوى عدد قليل من القنابل الموجهة بالليزر أو بالأقمار الاصطناعية، وذلك وفقاً لمصادر عسكرية روسية، التي تؤكد أن كثيراً من هذه القذائف «الذكية» معيبة.

قصف عشوائي

من جهته، وجّه مركز الدراسات الاستراتيجية والتكتيكية في موسكو، انتقادات لاذعة للمؤسسة العسكرية الروسية لإخفاقها في تطوير القنابل الموجهة بأشعة الليزر، والصواريخ أرض ــ جو فائقة الدقة وأنظمة التوجيه، ووصف المركز ذلك بأنه «غريب وغير مقبول».

في الواقع، تقوم الاستراتيجية الروسية على استخدام الرعب والتدمير الكامل، بالقصف الشامل والعشوائي، بهدف القضاء على العدو. وكما هو الحال في حلب اليوم، وفي غروزني أمس، فإن هذه الاستراتيجية العمياء، التي تؤدي إلى سقوط ضحايا من المدنيين، تجعل الكرملين غير مبالٍ.

وعلّق وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، على الضحايا الأبرياء بالقول: «إنها الحرب»، وعلى الرغم من الاتهامات بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، تشعر روسيا بالقوة لأن أحداً لا يستطيع محاسبتها، وتوقيع العقوبة عليها. ولم تكتفِ بعدم التوقيع على وثيقة روما الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية، بل ظلت على استعداد لعرقلة عمل هذه المؤسسة، مستخدمة حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن. ومع ذلك، ولمواجهة الاحتجاجات وتهدئة سخط الغرب إزاء المجازر في حلب وأماكن أخرى في سورية، تتنازل موسكو أحياناً بالموافقة على وقف إطلاق النار.

والأمر الأكثر سذاجة، بعد تضييق الخناق على المدنيين وهزيمة المقاتلين، فإن موسكو لا تقترح وقفاً لإطلاق النار، بل فتح ممرات إنسانية لإجلاء المدنيين من الأحياء المحاصرة والمدمرة. أما بالنسبة للمسلحين، فأمامهم خياران لا ثالث لهما: الأول أن يلقوا السلاح ويستسلموا للقوات النظامية، أو السماح لهم بالهروب إلى مناطق أخرى يسيطر عليها الثوار. هذه «المتغيرات»، حسب العقيدة الروسية، لديها فائدتان في ما يبدو: الأولى تكمن في درء الاتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، والثانية هي تفادي الخسائر الثقيلة الناجمة عن مقاومة المسلحين المحبطين.

جان بابتيس تونديه كاتب ومحلل فرنسي

تويتر