5 دقائق

قواعد استشراف المستقبل

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

استشراف المستقبل يعني النظر لقادم الزمن بتفاؤل، والعمل على إصلاحه بما يُستطاع فعله من حسن تدبير، ودقة تخطيط، سواء في ذلك مستقبل المرء عند ربه بالعمل صالحاً، أو بمستقبله في دنياه التي أمره الله أن لا ينسى المرء نصيبه منها، فقد استعمره ربه فيها، وسخّر له مكنوناتها وخيراتها.

ودين الإسلام دين عمل؛ نظره للمآل كنظره للحال على حد سواء، لذلك يرى أن العمل للمستقبل من أوجب واجبات المسلم، كما يشير لذلك قوله سبحانه: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾وقد قصّ لنا القرآن قصة يوسف، عليه السلام، مع عزيز مصر، وما خطّطه لمستقبل البلاد حمايةً للأمة من المجاعة التي علمها بما علّمه الله من تأويل الأحلام ونور النبوة.

وقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يستشرف المستقبل بكل تفاؤل، فكان يخطط له تخطيطاً بديعاً ويحثّ أمته على مثل ذلك فيقول مثلاً لسعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه - وقد أراد أن يتصدق بكل ماله - : «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس». ثم يقول له: «لعلك أن تُخَلَّف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون»، وقد كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته، ويترك أعداءه المتربصين به خشية أن يتحدث الناس بأنه يقتل أصحابه، وقال مرة: «يركب قوم من أمتي ثَبَج البحر - أي وسطه - هم الملوك على الأسرة»، أو قال كالملوك على الأسرة. ومثل هذا كثير في كل شؤون الدين والدنيا.

وقد كان أصحابه، رضي الله عنهم، يفهمون ذلك ويعملون به، حتى كان عبدالله بن عمر، رضي الله عنهما، يقول: «احرث (وفي رواية أحزر) لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً».

وسار خلفاؤه من بعده على ذلك المنوال، فحموا بيضة الإسلام برؤاهم البعيدة من استكشاف المخاطر على الإسلام في الجزيرة العربية، ووجوب نشرها خارجها، ليبقي الإسلام في بيئته، ومنفتحاً على الشعوب والأوطان المختلفة، حتى دخل الناس في هذا الدين أفواجاً، ولايزال كذلك كما استشرفه المصطفى، صلى الله عليه وسلم، بقوله: «والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون». وقوله: «لا يبقى على الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل».

وسار على ذلكم النهج الفقهاء، فوضعوا علم المقاصد، ونظروا إلى المآلات، وسدوا ذرائع الفساد، وفتحوا ذرائع الرشاد، واستكشفوا الواقع لتنزيل الأحكام عليها إلى غير ذلك.

وفي الحقيقة فإن المستقبل هو بيد الإنسان، فإما أن يكسبه أو يخسره، لأنه يمضي على سنن كونية لا تتبدل، فمن أخذ بها أدرك مأموله، ومن تركها فلا يلومن إلا نفسه، وإن كان الكل من عند الله تعالى خلقاً، ولكنه من فعل العبد كسباً.

ونحن أحوج ما نكون إلى استشراف المستقبل، بغض النظر عن تعقيدات الحياة وكثرة بلوائها، وذلك بما يلي:

1- التخطيط لتنمية الحياة اقتصادياً وعمرانياً وزراعياً، بناء على معطيات ناتجة عن فهم سليم.

2- جعل العلوم المختلفة أسساً راسخة للبناء، وإيصالها للناشئة والشباب والكهول بكل وسيلة ممكنة.

3- العمل الجاد لاستقرار المجتمع سياسياً؛ لأنه هو مفتاح كل تقدم وازدهار، كما أن فقده سبب كل فساد في الحاضر والمستقبل.

4- الاستفادة من السنن الكونية التي يجري بها نظام الدنيا، والتي أخذت بها الأمم الناجحة.

5- الأخذ بالأسباب الحقيقية لتحقيق النجاحات، وعدم الاتكالية على الماضي، حتى إن كان وضّاءً جميلاً.

6- حماية ما يتحقق من نجاحات حتى يُبنى عليها المستقبل بأحسن وأجمل من الوجود.

فهذه أهم عوامل نجاحات المستقبل، الذي نستشرفه لأجيالنا ووطننا العزيز وحكمنا الرشيد بأمل عريض.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر