5 دقائق

الثاني عشر من ربيع الأول

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

تتجدد ذكريات الأحداث العظام بتجدد الزمان وتكرر الأيام والليالي، فما من زمن إلا فيه حدث عظيم، قد يكون ذلكم الحدث معلوماً بالدقة تواتراً، وقد يكون ظنياً، والحدث العظيم المشهور بين الناس في هذا التاريخ هو بروز سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوجود وعالم الشهود، فإن الشهرة التي طبّقت الدنيا المستندة إلى كثير من الروايات تغني عن دقة تاريخه تواتراً، إذ معرفته على سبيل الدقة ليس أمراً تعبدياً، لكون المحتفى به فيه ليس نفس الزمان بل الحدث ذاته وهو ولادة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإذا كان المسلمون يرون أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم هي أُسُّ إيمانهم؛ فإنهم قد يعبرون عن هذه المحبة بالاحتفاء المشهور بينهم قديماً وحديثاً، بقراءة سيرته، واستذكار شمائله، والصلاة والسلام عليه، وذكر شيء من الثناء عليه نثراً وشعراً، من باب الشيء بالشيء يذكر.

ومثل ذلك أمر محمود بحد ذاته سواء كان في ربيع الأول أو في غيره، فإن المسلم متعبد بمعرفة رسول الله صلى عليه وسلم والتحلي بشمائله، أما السيرة فلأنها جزء من السنة المطهرة، وأما الشمائل فلأنها محل الأسوة، وأما الصلاة والسلام عليه فإن ذلك من أفضل القرب وأعظم الطاعات، ونحن متعبدون بالإكثار منها ولو أن تفنى الأوقات كلها في ذلك، وأما المديح شعراً ونثراً فذلك مما كان يحبه صلى الله عليه وسلم ويثيب عليه، ومهما بلغت بلاغة الشعراء والخطباء فإن ثناءهم عليه صلى الله عليه وسلم يبقى قاصراً عن وصف كماله الإنساني، وكما اعترف بذلك بعض البلغاء بقوله:

يا مصطفى من قبل نشأة آدمٍ والكونُ لم يفتح له أغلاقُ

أيروم مخلوق ثناءك بعدما أثنى عليك الواحد الخلاقُ؟

لأن المدح الحقيقي لا يكون إلا عن كمال المعرفة، المبنية على شدة المتابعة وبالغ التعلق، كما كان من ابن رواحة وحسان وزهير وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين ممن شهدوا طلعته وتشرفوا بصحبته، وأدركوا بعض كمالاته صلى الله عليه وسلم، فكان مدحهم رائقاً ذائقاً، ومع ذلك فهو نَزْر من كثير، كما قال بعضهم:

أرى كل مدح فى النبي مقصِّرا ... وإن بالغ المثني عليه وأكثرا

إذا الله أثنى بالذي هو أهله ... عليه فما مقدار ما يمدح الورى؟!

إن احتفاء الدول الإسلامية وشعوبها بذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في الحقيقة تعبير عن هوية الدول والشعوب، وهو أيضاً إشعار بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حي في وجدان أمته، وأنها تنشد محبته التي هي أسُّ الإيمان ومعياره، وتنشد متابعته المبرهنة على محبته والتمسك بشريعته، وأنها متماسكة بالمشاعر والذكريات، فتتوحد في المناسبات، فتعرف أمم الأرض أنها مازلت على سَنَن المتابعة لرسولها، متمسكة بوحدتها الإسلامية ومنهجها النبوي في الرحمة والسماحة والأخلاق العظيمة والسلام والوئام والتعارف بين الشعوب.

فهذه معانٍ كبيرة توجد في ربيع الأول ليس فيها ما يعاب لدى الكثير إلا ما يذكر من مخالفات قد تكون في بعض المجتمعات تنشأ عن فَرْط المحبة غير المنضبطة، ويمكن علاجها بالتوجيه السديد الذي ينفع ولا ينفر.

ولسنا بصدد التأصيل لهذه الذكرى العظيمة التي لا يخرج منها النقاش بطائل، لما للمانع من دوافع وللمثبت من تأصيل، فكان الإعراض عن ذلك خيراً من الخوض فيه سواء في مقال أو في موضع جدال، فإن النقاش قد يجرئ على انتهاك الحقوق وبث الفوضى وانتهاك النظم، وقد أصَّل الفقهاء تأصيلاً شرعياً تتعين مراعاته، وهو أنه لا ينكر المختلف فيه بل المجمع عليه فقط، وإنكار المجمع عليه لا يكون لكل أحد بل لذوي الاختصاص مع مراعاة مراتبه بحيث لا يباح تجاوزها.

وأيّاً ما كان فإن الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم سيبقى هو الأصل لدى جمهور المسلمين كما مضت عليه القرون الغابرة من غير نكير ولا تحذير مستطير، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر