5 دقائق

«الأقصى» لا بواكي له

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

تُمتحن الأمم والشعوب كثيراً، فتلك سنة الله في عباده، وقد يكون هناك منكرون لذلك الامتحان إذا كان بشرياً، ومتعاونون على دفعه أو تخفيف آثاره إذا كان إلهياً أو بشرياً أيضاً، إلا أن المسجد الأقصى والأرض المباركة حوله وأهله غدا اليوم لا بواكي له ولا عليه، كأنه لم يعد محل اهتمام أمة من الأمم، ولا شعب من الشعوب، وقد كانت قضية الأمة الإسلامية عند أول محنتها، ثم تقلصت لتكون محنة الأمة العربية، ثم تقلصت أكثر فأكثر لتكون محنة الشعب الفلسطيني والمقدسيين بالذات. ولئن بحثت عن سبب التقلص ذلك، لوجدته انشغال كلّ أمة بنفسها عن غيرها، فالأمة الإسلامية عموماً انشغلت بقضاياها التي وصمت بها من وصم الإرهاب، وهي منه أبرأ من ذئب يوسف عليه السلام، ولعلها تنفض غباره قريباً إن شاء الله تعالى، والأمة العربية انشغلت بفتنتها التي قدّر لها أن تخوضها مرغمة، فشتت شملها، ودمرت بنيتها، وفرقت مجتمعاتها، والأمة الفلسطينية انشغلت بانقسامها وتفرّقها، حتى اسطاع عدوها أن ينال منها نيلاً لم يكن ليناله من قبل. فمن للمسجد الذي بارك الله حوله، وجعله مهد رسالاته، ومسرى رسوله صلى الله عليه وسلم، وأرض محشر عباده؟ لابد له من حبل من الله، وحبل من الناس.

كانت قضية الأقصى قضية الأمة الإسلامية عند أول محنتها، ثم تقلّصت لتكون محنة الأمة العربية، ثم تقلصت أكثر فأكثر، لتكون محنة الشعب الفلسطيني والمقدسيين بالذات.

لقد كان أسيراً حقاً منذ عام 48 بعد الألف والتسعمائة، غير أنه كان يعامل معاملة الأسرى ببعض الحقوق، وكان محتلاً، لكن كان لأهله صولة وجولة فيه، أما اليوم فهو في مهب الريح، ونخشى أن تذروه، ليبنى على أنقاضه الهيكل المزعوم الذي أنكره التأريخ وأعياه البحث، فمن لك يا «أقصى» وقد انشغلت الأمة الإسلامية ودمر كثير من البلاد العربية، وتفرقت الأمة الفلسطينية أيادي سبأ؟ حتى البواكي لم تعد تندبك، فلم تعد لك نائحة!

نعم، الأقصى الأسير والمحتل لم يعد في دائرة اهتمام العالم؛ فالعالم لديه الآن ما هو أهم منه، إنه الأمن القومي لكل بلد، فالعالم كله يشكو من خلله، وإذا تأملت ذلك علمت أن الخلل لم يكن عفوياً، بل كان مدبراً بليل ليتفرغ كل إنسان بخويصة نفسه، ولا يعنيه ما يهم غيره، كأنَّ الحديث الشريف «حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمراً لا يدان لك به، فعليك خويصة نفسك، ودع أمر العوام»، كأنه يتنزل علينا اليوم أفراداً ودولاً، وهو من أشراط الساعة.

غير أن هذا لا يعفي الكل من المسؤولية أمام الله تعالى؛ لأنه أوجب إنكار المنكر، فكما ينكر الناس أجمعون إرهاب الأفراد والجماعات، ويسهمون في دحضه، فكذلك هم مسؤولون عن إنكار إرهاب العدو الأول للإسلام والمسلمين، وهو الكيان الصهيوني الغاصب المحتل، الذي لن يقف عدوانه عند حد المسجد الأقصى، بل سيتعداه إلى غيره، حسب خططه، فيتعين أن ينكره كل ذي ضمير حي من المسلمين وغيرهم؛ لأنه عدوان على الحق، ومصادرة للحرية، وظلم للأبرياء.

حتى العلمانية، التي يزعم حكام صهيون أنهم أبناؤها وصانعوها، تقتضي النأي عن دور العبادة والعابدين، فكان على الجميع أن ينكر المنكر بما يستطيع، ولو بأضعف الإيمان، فقد ينفعنا ذلك عند ربنا.

هؤلاء الغاصبون ليسوا ببعيدين عن العذاب البئيس، الذي وعدوا به في توراتهم وقرآننا، فقد جاؤوا لفيفاً لتسوء وجوههم كما وعد الله جلّ وعزّ، لعلوِّهم في الأرض، وتكبرهم على الضعفاء، وتدنيسهم المقدسات، وليس ذلك بخافٍ على من بيده الملك والجبروت والعزة الذي لا يموت، سبحانه، بل هو يملي لهم، وإن كيده لمتين، وهو بالمرصاد لكبرهم وجبروتهم، وما ذلك اليوم عند الله ببعيد.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر