5 دقائق

فضيلة الرجوع إلى الحق

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

يردّد الناس كثيراً حكمة «الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل» وهي حكمة بالغة، مأخوذة من رسالة سيدنا عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري، رضي الله عنهما، في رسم القضاء، والتي يقول فيها: «لا يمنعك قضاءٌ قضيتَه بالأمس راجعت فيه نفسك، وهُديت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل..».

• إننا في عالم تشابك المصالح، لاسيما بين الأهل والجيرة، فإنهم أولى بأن يكونوا عصبة واحدة.

وتعتبر هذه الرسالة أصلاً في باب القضاء سلفاً وخلفاً، واقتبس الناس منها هذه الجملة لتكون حكمة ذائعة، يطبّقها العقلاء فيزدادون مكانة ورفعة، ويرفضها غيرهم فيكون رفضها وبالاً عليهم؛ لأن الحق إذا وضح فإن رفضه يكون مكابرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم «الكِبر بَطَرُ الحق، وغَمْطُ الناس»، وفي رواية «ولكن الكبر من سفِه الحق وغمص الناس أو غمط الناس».

وبطر الحق يعني دفعه، وسفهه يعني تسفيهه، وغمط الناس أو غمصهم يعني احتقارهم، وكل ذلك ممقوت لدى الناس، ولا يقبلونه، بل يدفعونه بما أوتوا من قوة؛ لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، فإن الحق واحد لا يتعدد، ومنهجه واضح لا لبس فيه، ولا عوج فيه ولا أمتى، وكما يقولون: لا يحق إلا الحق، ومهما كان للباطل صولات وجولات، فإنه يذهب جُفاء عاجلاً أو آجلاً، كما قال الله تعالى:{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}.

ولو أن الذي اتضح له الحق عمل بالحكمة وعاد إليه لكان محل تجِلّة الناس، كما قال بعض الأدباء:

ليس من أخطأ الصواب بمخطٍ ...

                 إنْ يَؤبْ لا ولا عليهِ ملامَهْ

إنما المخطئ المسيئ الذي إن ...

                وضح الحق لجَّ يحمى كلامه

حسنات الرجوع تذهب عنه

               سيئات الخطا وتنفي الذَّاَمه

ذلك لأن الخطأ نهج ابن آدم، لقصور نظره، ومحدودية فهمه، وقلة علمه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون»، فجعل للتائب من الخطأ محلاً في الخيرية؛ لأنه عرف الحق وعاد إليه، وهذا هو منهج الإسلام في كل شيء، فإنه يعامل الناس بحسب طاقتهم، فيقبل توبة التائب، ويفتح الباب للمعرض، ويمحو السيئات عن المسيء مهما كانت سيئاته، بل يبدل الله سيئاته حسنات، لأن هذا الدين صٍنعة الله رب العالمين، وشِرعته للعالمين، فعلى الناس أن يعرفوا ذلك ويقبلوا على أنفسهم ويعالجوا أخطاءهم، ويعدلوا مساراتهم، وإلا كان الخسران لهم بالمرصاد، فلا يهلك إلا نفسه، ولا يلومها إلا هي.

وهكذا يكون حال العباد مع بعضهم، فإنهم في أمور الدنيا أولى بالرجوع إلى هذه الفضائل، والتحلي بكرم الشمائل، لاسيما إذا كان في الرجوع إليه وحدة الكلمة، وحفظ الحقوق، وصون الأمة، وتعظيم الحرمات، واحترام الخصوصيات، ووحدة السياسات، فإن هذه كلها مرشحة لأن يعود الجانح، ويرعوي الشامخ، فإنه أولى بأن ينقاد إلى الحق من أن يستفزه الباطل، فيظل فيدركه الخسران المبين، وقد قال بعض البلغاء: ليكن مرجعك إلى الحق، ومنزعك إلى الصدق، فالحق أقوى معين، والصدق أفضل قرين.

إننا في عالم تشابك المصالح، لاسيما بين الأهل والجيرة، فإنهم أولى بأن يكونوا عصبة واحدة، بل كالحلقة المفرغة لا يُدرى أين طرفاها، فإن حقوق أهليهم عليهم عظيمة، فليس من السهل التفريط فيها، فإن الله سائل من فرط فيها مساءلة عظيمة لا ينجو من تبعاتها إن لم يتداركها قبل فواتها، بل إن أصحاب الحقوق الضائعة قد يجدون أنفسهم مضطرين لانتزاع حقوقهم، فإنهم لا يفرطون في مصالحهم وهم قادرون.

ولعظيم فضيلة الرجوع إلى الحق كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»، ومن أدعية السلف «اللهم أرنا الحق حقاً وألهمنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وألهمنا اجتنابه».

* «كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر