5 دقائق

مدرسة الصوم

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

يتحدث الناس كثيراً عن مدرسة الصوم، وهم يقصدون أن شهر رمضان له أثر عظيم في التربية والسلوك، كما يكون من المدرسة التي تربِّي الطلاب وتنمِّي فيهم قيم السلوك الإسلامي والإنساني، وهو تعبير صحيح لأن المدرسة في اللغة مكان الدرس والتعليم، مأخوذة من المدارسة وهي: الرياضة والتعهد للشيء، كما تطلق على المدرسة المعهودة في الأماكن المعدة للتعليم الحسي، وتطلق على المذاهب الفكرية والعلمية التي يكون لها منهج واضح وأتباع، فيقال: المدرسة الأثرية والمدرسة الأشعرية والمدرسة العقلانية الخ..

تطلق كذلك على الأزمنة التي يُتعهد فيها الأخلاق والقيم المثلى، والتي تدني المرء من ربه سبحانه وتعالى، ونبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وشهر رمضان خير ما يطلق عليه مثل هذه التسمية، فإن غايته العليا في التشريع هي تنمية ملكة التقوى كما قال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

والتقوى هي مرتبة إيمانية عظيمة لا تدرك إلا بالرياضة على الأخلاق الإيمانية من مراقبة لله تعالى، والرضا به وعنه، والتوكل عليه، والمحبة له، والسلوكية من إخلاص وصدق واستقامة وإنابة لله تعالى، والاجتماعية من صبر وحلم وقناعة وعفو وكرم، الخ، وكذلك بالاستقامة على طاعته والبعد عن معصيته، والتنافس في مرضاته، وكل هذه الأمور هي ديدنُ الصائم، فهو لا يفتر عن شيء من ذلك مدة الشهر كله، فلذلك هو في مدرسة معنوية كاملة الأركان، فيسعى جاهداً ألا تنقضي مدة مكثه فيها حتى يتهيأ ليكون من خريجيها المتميزين، بحيث تبقى شارة مدرسته مشعّة في جبينه تنشر عبق الصوم، وتضيء مسيرته كل يوم.

ذلكم هو الصائم المنتمي لهذه المدرسة، الذي لا يود الخروج منها ولو كان عامه كله رمضان، لأنه قد أُشرب هذه المعاني العظيمة، فأصبح حبيب الرحمن، سبحانه وتعالى، كما يشير إليه الحديث القدسي «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك»، وما ينال هذه المرتبة إلا لأنه قد تهذب بهذه المدرسة، فهو يتمثل قيمها العظيمة في نفسه ومع الناس أجمعين، فلذلك تراه صائناً صومه، لا يجرحه بقول كذب أو زور أو بهتان أو غيبة أو نميمة، ولا بفعل مؤثم بجوارحه أو قلبه، ولا يقصر في واجب افترضه الله عليه، أو يتأخر عن قربة دعاه الله تعالى إليها.

هذه هي مدرسة الصوم التي ينال الفائز فيها مغفرة لذنوبه، كما قال صلى الله عليه وسلم «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، والتي يبشر فيها الصائم بدخول جنات عدْن بمناداة باب خاص فيها ينادي الصائمين لا يدخل منه أحد غيرهم، هو باب الرَّيَّان، والتي يكون الفائز فيها قد ادَّخر لنفسه رصيداً من الحسنات لا يقايضه عليها من لهم عنده تبِعات، فيأخذون من ثواب سائر الصالحات إلا الصوم، فإنهم لا يقدرون على النيل من أجره؛ لأنه ليس في صحائف الملائكة التي كتبت الحسنات، بل هو بيد رب البريات سبحانه، يجزيه عليه جزءاً لا يطّلع عليه الكتبة الكرام.

وسبيل من أراد أن يكون فائزاً فيها أن ينال شهادة حسن السيرة والسلوك، ولا ينالها إلا من لم يسجل عليه مراقب المدرسة خصاماً ولا سباباً ولا فسوقاً، بل كان يسمع منه إذا خوصم أو شُتم: إني صائم، إني صائم، وكان يرى قيامه بالليل، وقراءته للكتاب المبين، ومسارعته للمرضاة من سائر الصالحات، وكان يراه غض الطرف عن المحرمات، بعيداً عن مواضع الشبهات، متجنباً سائر الشهوات في نهار صومه، متبتلاً إلى الله في ليالي شهره، وكان يلاحظ عليه حرصه الشديد على إدراك ليلة القدر، التي هي أعظم غنائم الشهر، بل هي غنيمة العمر؛ لأنها خير من ألف شهر، والتي من أبرز فضائلها أن من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

تويتر