5 دقائق

مذهب إمام دار الهجرة في الجزيرة العربية

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

ورد في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «يوشك أن يضرب الرجل أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يجد عالماً أعلم من عالم أهل المدينة»، وكان ابن جريج يقول: نرى أنه مالك بن أنس، ونقل عن ابن عيينة مثل ذلك.

ذلكم هو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي (94 - 179 هـ) الذي قدم جده من اليمن إلى المدينة في عصر الصحابة، واستوطنها، فأخرج الله من صلبه من تُضرب إليه أكباد الإبل ليُأخذ عنه العلم، فينتشر علمه في الآفاق، فإنه، رحمه الله ورضي عنه، نشأ في مدينة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مأرز الإيمان، يأخذ العلم عن التابعين من فقهاء المدينة، وما لبث أن تصدر للتدريس بمسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم بعد أن شهد له أشياخه بأهليته للفتوى، كما قال الغلاوي في الطليحة:

فمالك أجازه سبعونا مُحنَّكاً للصحب يتبعونا

• كل أبناء الجزيرة مشربهم واحد وأعرافهم متقاربة.

وقال ما أفتيتُ حتى شهدا سبعون شيخا أنني على الهدى

ظل الإمام مالك، رحمه الله، ينشر العلم في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لا ينشغل عن ذلك بغزو ولا تجارة ولا زرع ولا ضرع، فيأتيه المشارقة والمغاربة، فيفرغ لهم أوعية العلم المأثور المتوارث في «الدار»، والمنقول برواية الثقات الأخيار، بمنهجه المشهور في التمسك بالآثار، فتكوَّن مذهبه في دار الهجرة، وبدأ ينتشر في من حوله من القرى الحجازية، حتى أصبحت الحجاز عن بكرة أبيها مالكية المذهب، ولا غرابة في ذلك، فقد عرفوا منهجه ومشربه ومستنده، فقلَّدوه عن معرفة ودراية، وثقة به وبشيوخه، وأدركوا عرف بلدهم ومشرب استدلالهم، وكذلك حال من جاورهم من البلاد، كجزيرة العرب بما فيها الخليج العربي الذي نحا نحو الحجازيين في اتباع إمام دار الهجرة، رضي الله عنه، فكل أبناء الجزيرة مشربهم واحد وأعرافهم متقاربة، فكان الخليج كله مالكي المذهب، وكانت الأحساء والبصرة حاضرتَي المذهب المالكي، حيث كان علماء المذهب متوافرين فيهما، وينتقلون إلى جيرانهم من ساحل عمان والبحرين وغيرها، فينشرون فقه المذهب ويعلمونه إخوانهم في هذه القرى المتجاورة، فكان المذهب المالكي هو مذهب السلوك والتعبد والتعامل والتقاضي كما قال ابن عاشر:

في عقد الأشعري وفقه مالك ** وفي طريقة الجنيد السالك

ولو أن مؤثرات السياسة والقضاء، خلت عن بلاد الحجاز وما جاورها؛ لكان المذهب المالكي لايزال سائداً في كل ربوع الجزيرة العربية، إلا أنه طرأ على الحجاز مؤثر الدولة الأيوبية، فغلَّب المذهب الشافعي، وتخلله المد الشيعي لفترة ليست قصيرة، حتى اضمحل في القرن الثامن الهجري، كما تأثرت بلاد اليمن بالدولة الرسولية فتحول أكثر أهلها إلى شافعية، وبلاد نجد وما جاورها في أوقات متأخرة، فتحولت إلى حنبلية، والبصرة تحولت إلى حنفية.

فوضع مذهب مالك في الجزيرة والخليج هو الأصل، لذلك لا يسأل عن سبب انتشاره فيه؛ لأن ما جاء على أصله لا يسأل عنه، إنما يسأل عما جاء على خلاف الأصل.

وإن كان بعض المؤرخين يعزو ذلك للدولة الجبرية التي حكمت الجانب الشرقي من الجزيرة العربية من أواسط القرن الخامس عشر الميلادي وحتى أواسط القرن السادس عشر، والتي امتد نفوذها من سواحل عمان جنوباً وحتى الكويت شمالاً، وضمّت أيضاً جزر البحرين، وامتد نفوذها إلى شرق نجد، وكانت عاصمتهم في الأحساء؛ فإن هذا وإن كان سبباً وجيهاً من حيث تاريخ الملك والسياسة، لكن الناس كانوا قبل ذلك وبعده ذوي مذهب فقهي بالضرورة، فما المذهب السائد لديهم؟ لم يُذكر ما يدل على تقلد هذه البلاد المتجاورة مذهباً آخر غير مذهب مالك، فهو مذهب متوارث كابراً عن كابر، ودخول المذاهب الأخرى كان دخولاً عرضياً، فلم يتنازع الناس مع الداخل الجديد، بل تعايشوا معه لأن المذاهب الفقهية الأربعة كلها مسالك إلى الجنة كما ذكر القرافي في الذخيرة.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر