5 دقائق

أثر الجليس

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

كثيراً ما نسمع ونردد قول الشاعر:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي

وهو لطرفة بن العبد من معلقته المشهورة التي يقول في مطلعها:

لخَوْلَةَ أطلال ببرقةَ ثَهْمَدِ تلوحُ كباقي الوشم في ظاهر اليَد

والبيت يجري مجرى الأمثال لشهرته، ويفوقها بوضوح دلالته، وبالغ حكمته، سواء في جانبه الإيجابي أو السلبي.

أما الجانب الإيجابي فيه، فإنه ناصع مشرق مشرف، فإن من كان مقارناً ومجالساً للأخيار، فإنه يصبح خيراً مفيداً نافعاً بسبب مجالسة أولئك الأخيار، فاقتدى بهم ورقى بمجالستهم إلى مصاف الأبرار، وما صار العلماء والفقهاء والمُفتون والمحدثون والأدباء والمؤرخون.. ما صاروا كذلك إلا بمجالسة أولئك الذين سميناهم.

أما الجانب السلبي فهو مظلم سيئ السمعة والصيت، فإن ذلكم الذي قارن ولازم وجالس من فيه سوء وشر، ينعكس كل ذلك عليه، ويعرف به، ويسجل في الصحائف المظلمة، وقد كان بوسعه أن لا يكون كذلك، لكنه أوتي من حيث لا يحتسب.

وأصل هذه الحكمة الحديث الشريف المخرج في الصحيحين من حديث أبي موسى، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال «إنما مثل الجليس الصالح، والجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يُحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة».

ففي الحديث تصوير بديع لحال الجليس النافع الذي يحرص عليه، والضار الذي يجب أن يجتنب، ودلالته لا تخفى على كل إنسان، إلا أن تطبيقه هو الذي يحتاج إلى إشادة بجلساء الخير، وتحذير من جلساء الشر، والإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره، ولعله يأتي يوم يتبرأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبَعوا، أو يقول: ما أنا بمُصرخكم وما أنتم بمصرخيَّ.

نقول هذا لأن أكثر ما تعانيه المجتمعات اليوم هو بسبب جلساء السوء الذين يسرع فسادهم إلى المجتمع أسرع من النار في الهشيم، مع أن كثيراً من أولئك الذين يجالَسون معروفون بسيماهم، ولكنهم يسحرون الناس ببطالتهم وإغرائهم الذي ينخدع به البسطاء، وكان الواجب على كل عاقل أن ينتقي جليسه كما ينتقي طعامه، وقد أرشد النبي، صلى الله عليه وسلم، لذلك حين قال: «لا تصحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي» بل إن الحق سبحانه قد نهى عموم عباده عن مجالسة أهل السوء كما قال سبحانه: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}، فهو نهي صريح واضح الدلالة، وما ذلك إلا لما له من أثر في ذلك الجليس مهما كان صالحاً، فإن أثر جليس السوء ينتقل إليه، كما قال أبوبكر الخوارزمي:لا تصحب الكسلان في حالاته ... كم صالح بفساد آخر يفسد

عدوى البليد إلى الجليد سريعة ... كالجمر يوضع في الرماد فيخمد

ومع وضوح الأثر لجلساء السوء أو البطالين الذين ليس لهم همم عالية للعمل النافع، فضلاً عن همم الجد والابتكار، حيث يسوقون قوافل من الشباب القادر على الكسب والإبداع، إلى عالم الضياع، ثم يكون منهم ما لا يسر خاطراً، ولا يطمع ناظراً.

والذي ننشده في الشباب أن توجد كوادر مؤهلة معرفة وخبرة، فتجالس الشباب الفارغ وتحفزه إلى العمل الجاد في دينه ودنياه.

والعلماء، بحمد الله، يقومون بدور كبير في النصح والإفادة والتشجيع وبذل المعارف، إلا أن الزهد عنهم غالب، فلا ترى من يرغب في مجالستهم فضلاً عن الاستفادة منهم، لعدم التشجيع على ذلك أولاً، وغفلة الناس عن خير ونفع الجليس الصالح ثانياً، ولو علموا أن أقل فوائد مجالسة العلماء أنه لا يشقى بهم جليسهم، لكان ذلك كافياً للحرص على مجالستهم والانتفاع بهم.

والله ولي التوفيق.

* «كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر