5 دقائق

نظرية كل شيء.. وفضيلة لا أعلم

عبدالله القمزي

تنتشر في مجتمعنا ظاهرة الشخص الذي ينظر في كل شيء، ويعرف كل شيء، ويفهم في أي شيء يُسأل عنه، فهو يفهم أكثر من المتخصص، ويجادل أي متحدث أمامه لإثبات أنه يعرف كل شيء.

التقيت رجلاً يقول إنه يتابع موضوعاتي في هذه الصحيفة عن الأفلام، واستعرض أمامي خبرته العميقة في التحليل وقراءة ما بين السطور، وسرعان ما أعطيته كل حواسي من أجل نقاش هادف، لكن شيئاً فشيئاً أخذت أسترجع حواسي تأهباً لقطع الحديث والانصراف إلى شأني، فكلما طال الحديث وتعمق الرجل في الموضوع أيقنت أنه لا يفقه ما يقول، وأجزم أنه لا يشاهد أفلاماً، وكل ما يقوله لا يدخل العقل، وكلما سألته عن مَراجعه قال: لا أتذكر.

حاولت تغيير الموضوع إلى السياسة والاقتصاد، فأخذ يحدثني عن أحداث وقعت قبل الثورات العربية ومهدت لها، وكلها أحداث لم أقرأ عنها في الصحف، لكن سمعت بعضها من معتنقي عقيدة المؤامرة، فاضطررت إلى قطع الحديث والانسحاب.

في وظيفة سابقة، كانت لدي زميلة تتحدث عن معرفتها بكل شيء، ولا تتردد عن الإفتاء في عمل غيرها وتخصصه، وعن تجاربها في الحياة التي لا تنتهي. ووصل الأمر إلى أن الإدارة نظمت لنا دورة تدريبية استغلتها تلك الفتاة للاستعراض وتحدي المُحاضِر في عمق تخصصه.

كانت هناك طريقة واحدة لإرسال رسالة صادمة إليها، وهي عندما أصرت على أداء إحدى مهامي لإثبات معرفتها بكل شيء، وعندما انتهت أرسلت نسختين من الملف (نسختي ونسختها) إلى مدير الإدارة حتى لا أظلمها، فاستدعاها إلى مكتبه ليشرح لها قيمة فضيلة الصمت وعدم حشر أنفها في ما لا يعنيها.

لماذا ندعي فهم كل شيء؟ لماذا لم تعد كلمة «لا أعرف» دارجة بيننا؟ ما العيب في ما لو قال أحدنا، إذا سئل، إنه لا يعرف؟ لماذا ليس لدينا احترام لمبدأ التخصصية؟ أصبح الاسترسال مع شخص يدعي معرفة كل شيء يكشف مدى جهله وحماقته! هل كلمة «لا أعرف» مدعاة للعار والجهل مثلاً؟ هل تخلف الغرب عندما اعتمد مبدأ التخصصية؟ أعرف بروفيسوراً أوروبياً متخصصاً في علاج أعصاب اليدين، إذا سئل في غير مجاله لا يتردد عن قول لا أعرف، رغم أنه يحمل ثلاث شهادات دكتوراه.

الشخص الذي يعرف كل شيء غالباً يعاني عقدة الشعور بنقص الأمان، أو أنه غير متعلم، أو يشعر بأنه أقل ذكاء من الآخرين، وهو يعلم تماماً أنه لا يعلم الكثير، لكنه يضطر إلى بناء حائط يستر ذلك العيب عن طريق محاولة معرفة كل شيء، والإفتاء في أي مسألة أمامه، بالإضافة إلى استعلائه على الآخرين وعدم الاهتمام بما يقولونه، فما يقوله هو المهم فقط.

من تجربتي أيضاً، واجهت أشخاصاً متعلمين وأذكياء جداً، لكنهم لا يترددون في الإدلاء بآرائهم وحشر أنوفهم في ما لا يعنيهم.

مسك الختام: أثناء مقابلة صحافية سألت رجلاً ألمانياً متخصصاً في تسويق السيارات الفاخرة سؤالاً ذا شق سياسي، فرفض الإجابة فوراً، قائلاً: فلنبقِ الحديث في إطار السيارات. والمسلمون الأوائل إذا كتبوا كتاباً كانوا يختتمونه بعبارة: والله أعلم! أي إنهم لايزالون ناقصي العلم، رغم تأليفهم الكتب.

Abdulla.AlQamzi@emaratalyoum.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر