5 دقائق

تشريع الخدمة المجتمعية

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

الخدمة المجتمعية ظاهرة حضارية، تنبع من تواضع في النفس، ومحبة للخير، وتفانٍ في خدمة المجتمع، وهي تعود بالنفع في المقام الأول على الخادم نفسه، حيث تضع ما في نفسه من الغرور والعجب، اللذين هما من أمراض النفوس القاتلة، فتصقلها بالتواضع ومحبة الخير وإيثار الغير، كما كان يفعل كثير من السلف إذا أحس بالإعجاب بنفسه.

وقد سن المصطفى، صلى الله عليه وسلم، مثل ذلك، كما روى أصحاب السنن أنه لما قدم وفد عبد القيس على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خدمهم بنفسه، فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله. قال: «إنهم كانوا لأصحابي مكرمين، فإني أحب أن أكافئهم»، وفعل ذلك مع وفد النجاشي، وقال مثل ذلك، بل كان، عليه الصلاة والسلام، في بيته كما قالت عائشة، رضي الله تعالى عنها: «كان يكون في مهنة أهله - تعني خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة»، وكم فعل مثل هذه الخدمة مراراً، كما في بناء مسجده الشريف، وحفر الخندق، وغير ذلك، مع أصحابه رضي الله عنهم، ومع مجتمعه. وعمر رضي الله كان يحمل على ظهره الدقيق لبعض من لمس فقره وحاجته، فإذا قيل له: أحمله عنك، فقال: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة؟ إلى غير ذلك مما لا يخفى أمره على القراء والمثقفين. فلنا بهم قدوة وأسوة في تقديم الخدمات المجتمعية التي تسر وتنفع.

• كم يعاني سكان الأحياء - وأنا منهم - من ويلات «التفحيط» المؤرقة المزعجة في سبات النوم وهدوء الليل، ولطالما حُجزت المركبات ودفعت الغرامات، إلا أنها لم تردع عن مثل ذلك.

إلا أنها أحياناً قد تكون عقاباً تأديبياً لبعض السلوكيات الخاطئة ممن لا يقدّر المسؤولية أو لا يحترم النظام، كما جرى للثلاثة الذين تهوروا بسيارتهم في منطقة راقية مأهولة بالسكان، فإن مثل ذلكم التصرف يقتضي عقاباً أليماً حدده القانون النافذ، فلو أخذ مجراه لكان عدلاً، ولكن هل يكون زاجراً؟ الجواب: أثبتت التجارب أنه ليس رادعاً ولا زاجراً، فكم يعاني سكان الأحياء - وأنا منهم - من ويلات «التفحيط» المؤرقة المزعجة في سبات النوم وهدوء الليل، ولطالما حُجزت المركبات ودفعت الغرامات، إلا أنها لم تردع عن مثل ذلك، ففي كل ليلة تسمع الكثير المؤلم، فإذا سُن تشريع بناء على ذلك الأمر الكريم، بجعل العقاب على مثل ذلك التصرف، خدمة مجتمعية - كنساً للشوارع - بذلكم المعدل الذي تضمنه الأمر السامي، إذا تم ذلك فلن تسمع صوتاً مزعجاً ولا تفحيطاً مرعباً، ولخلَد الناس في بيوتهم في سكن الليل بما خلقه الله لأجله من سبات وهدوء وراحة، ولأمِن السائرون المتمتعون بمناظر الحضارة الرقية وجمال الطبيعة الزاهية.

إن السياسة الشرعية ترى من المصالح المجتمعية ما لا يراه الفرد، ومن هذا الباب ما فعله النبي، صلى الله عليه وسلم، في أسارى بدر، حيث جعل فداء من يحسن القراءة تعليم عشرة من أطفال أهل المدينة، فكان ذلك أعظم نفعاً من الفداء بالمال، وما فعله سيدنا عمر، رضي الله عنه، من ضرب صبيح بدِرَّته على رأسه، حتى أذهب ما في رأسه من الشكوك والأوهام، وما فعله من حلق رأس عمر بن أبي ربيعة، لما كان فيه من فتنة جمالية للنساء مع شعره الغزلي الرائع، وما فعله سيدنا عثمان، رضي الله عنه، من نفي أبي ذر الغفاري، رضي الله عنه، إلى الرَّبذَة، لما كان عليه من الزهديات التي تفسد عليه سياسته المالية... إلى غير ذلك من الصور المعروفة في تأريخ الإسلام وساسته العظام، فكل هذه تعتبر تأصيلاً لتشريع زاجر، وسياسة شرعية حكيمة.

فجزى الله سموه خير ما يجزي والياً عادلاً وحاكماً فاضلاً، وأصلح بسياسته الحكيمة البلاد والعباد.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر