5 دقائق

ويتخذ منكم شهداء

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

الأمم العظيمة ليست بمعزل عن الامتحان الإلهي؛ فهذه سنة الله في خلقه، التي لا تبدل، وكما قال سبحانه{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا}، والمعنى أن مراد الناس لا يكون غالباً ولا حاكماً على مراد الله تعالى، فإنه سبحانه قد يبتلي عباده الصالحين بما يشاء، فله الحكم والأمر، وكما قال عن أصحاب نبيه، صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي الله عنهم {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، فأخبر سبحانه أن له إرادة شرعية باتخاذ صفوة من عباده شهداء، ليكرمهم بما أعده للشهداء من عظيم المنازل، لأن الدنيا ليست دار إكرام، بل هي دار امتحان واختبار وابتلاء، ولهذا لم يرضها لأنبيائه وأوليائه وأصفيائه، ولذلك كان الصحابة والتابعون وصالحو المؤمنين يتمنون الشهادة ويسعون إليها سعياً حثيثاً، ويرون أن من لم ينلها فذلك محروم، ومن نالها فقد فاز بسعادة الآخرة، وبحبوحة الجنة، ولا يبالون في أي حالة تكون عليه شهادتهم، ولو أن يمزقوا أو يحشروا في بطون السباع، كما كان خبيب رضي الله عنه يقول:

ولستُ أبالي حين أُقتل مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي

• فكل فرد من أفراد هذا الشعب شيوخ وأقارب وغيرهم قد نال حظا من أجر المصيبة إن شاء الله.

وذلك في ذات الإله وإن يشأْ ... يبارك على أوصال شِلوٍ ممزع

وقد كان الملك العادل نور الدين زنكي يدعو الله أن يحشره من بطون السباع، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى عمه حمزة، رضي الله عنه، وقد مُثِّل به وغاظه ذلك، قال: «لولا أن تجزع صفية ـ يعني بنت عبدالمطلب أخت حمزة رضي الله عنهما - وتكون سنة من بعدي ما غيب حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير»، كما رواه البيهقي في الدلائل، وليس ذلك إلا لما يترتب على هذا الابتلاء من الأجر العظيم.

نقول هذا تسلية لما أصاب شعب الإمارات الكريم الرحيم من استشهاد كوكبة من صفوة أبنائه الخيِّرين، الذين عرفوا بشهداء الخير والإنسانية، وهو مصاب جلل في ظاهره، لأن الموت المجرد مصيبة بلا ريب، حيث ينقطع المرء من زيادة عمل الخير، فكيف به إذا كان بمثل هذا الحال، وليس في مظنته؟! فإن المصيبة تكون أكبر، إلا أنها منحة إلهية في حقيقتها للشهيد نفسه، ولمن رُزِئ به، من أقارب وأهلين، أما الأقارب فهم ذوو رحمهم، وأما الأهل فهم الشعب كله، وحسب الجميع ما أعده الله تعالى للصابرين، من المغفرة والرحمة والهداية، إن هم صبروا واسترجعوا، فكل فرد من أفراد هذا الشعب، شيوخاً وأقارب وغيرهم، قد نال حظاً من أجر المصيبة، إن شاء الله، وإن تفاوتت أجورهم بحسب الأسى والحزن.

لكن المنحة الكبيرة التي كانت في طي هذا الحدث الذي ارتكبته أيادي الإثم والإجرام، وهي الشهادة العالمية لدولة الإمارات بأنها دولة عطاء وسخاء، ودولة إيثار ووفاء، ودولة تعرف معنى الإنسانية فتبذل لها ما تستحق من الإكرام، فتلك سجية جبلها الله عليها، وقد صرّح قادتها الميامين بأن هذا الإجرام لن يثني عزم الدولة عن إيصال الخير للغير، ولن يغير الشعب طبيعته الكريمة التي طُبع عليها، ولن يسـتأثر بما حباه الله من الخير، ولعل هذا هو سر الحقد الدفين من أولئك المجرمين على هذا الشعب، فإن خبر «عام الخير، وبنك الطعام» ما كاد يجف حبره حتى شَرق به أعداء الفضيلة، فظنوا أن إجراماً تعيساً كهذا سيثني دولة الإمارات وشعبها الكريم عن أن تمد يدها لكل بائس فقير، وهيهات أن يكون ذلك! فقد خاب ظنهم وتعس سعيهم، بما صرح به الشيوخ الكرام من العزم على مسيرة العطاء، ما أدام الله العز والرخاء.

فاللهم أدم النعماء، حتى تكبت الأعداء.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر