5 دقائق

نوستالجيا.. ذلك الحنين إلى الماضي

عبدالله القمزي

لا يمرّ علينا يوم نجلس فيه مع أهلنا أو أصدقائنا أو حتى زملاء العمل إلا نذكر فيه الماضي. نسميه الماضي الجميل، أو أيام الطيبين، أو ما أروع تلك الأيام، أو عندما كانت الدنيا بخير، وكل تلك الكلمات تصف العشق الذي نكنه للماضي وتجمّله، وتجعله في أذن السامع زمناً مثالياً.

كل جيل يعشق أياماً معينة من حياته، جيل الخمسينات يعشق السبعينات، وجيل الستينات يعشق الثمانينات أو حتى السبعينات، وجيل السبعينات يعشق الثمانينات والتسعينات، وهلم جرا. هذه هي النوستالجيا، حالة عاطفية جارفة تأخذنا إلى الماضي.

ما الذي نعشقه في الماضي؟ طفولة اشتقنا لها، أو مكاناً عشنا وتعلقنا به، أو بساطة كانت في ما مضى أسلوب حياة، أو مجموعة أصدقاء اعتدنا اللعب معهم، أو عادة ما كانت سائدة واختفت بمرور الزمن، أو تقنية استمتعنا باستخدامها ولم تعد صالحة الآن، أو حياة بلا مسؤوليات؟

عندما تأتي النوستالجيا يفقد الإنسان صلته بحاضره بطريقة مذهلة، بل ليس للحاضر طعم في تلك الحالة لأن الخيال قد غادر إلى هناك. حب الماضي مرتبط بتجربة أو بتجارب معينة عشناها وقيّمناها وأصدرنا حكمنا عليها بالإيجاب ونريد تكرارها بناء على ذلك الشعور.

النوستالجيا ليست شعوراً هيناً، بل كما قلنا هي عاطفة جارفة تُذرف الدموع من شدتها، وهي لحظة ملهمة للشاعر والفنان والكاتب والأديب، وحتى في السينما تُرجمت النوستالجيا على شكل آلة الزمن المستخدمة للسفر إلى الماضي.

سبب قوتها أنها تأتي في حالات الانعزال أو الوحدة عندما لا يكون العقل مشغولاً بشيء، تأتي لتجرفه معها ويفقد الشعور بطعم حياته التي يعيشها في الوقت الحاضر. الأبحاث العلمية أثبتت أن معظم الناس تعيش حالة النوستالجيا مرة واحدة أسبوعياً، بينما نصفهم يعيشها ثلاث أو أربع مرات في الأسبوع.

• حب الماضي مرتبط بتجربة أو بتجارب معينة عشناها وقيّمناها وأصدرنا حكمنا عليها بالإيجاب، ونريد تكرارها بناء على ذلك الشعور.

الماضي كحلم متملص بالضبط كالمستقبل، هو مخيلة معدلة وفقاً لأهوائنا نستحضرها في الذاكرة لكن لا نراها أمامنا، وكذلك المستقبل نراه في الخيال من دون القدرة على توقع كل تفاصيله. وكلاهما يستخدم للهروب من الواقع وآلامه والابتعاد عما يسبب لنا الضيق.

النوستالجيا عملية انحيازية تحضر لنا الماضي السعيد والمثالي وتنقيه من كل اللحظات الحزينة، نتذكر كل لحظة سعيدة وننسى كل ساعة حزينة تخللتها أو أعقبتها، وهذه آلية يستخدمها العقل لرفع معنويات الشخص وحمايته من الانهيار النفسي أو الدخول في حالة اكتئاب، لكن في الوقت نفسه فإن الإفراط في النوستالجيا يعد من علامات الاكتئاب، ورفضاً لدى هؤلاء الأشخاص للحاضر والاستمتاع بحياتهم، وأيضاً ضعفاً في الالتزام بمتطلبات المستقبل، وهؤلاء غالباً يفشلون في الحياة العملية ويعجزون عن مواجهة التحديات ويضيعون.

مسك الختام: النوستالجيا كانت تعد مرضاً نفسياً في القرن 17 عندما شخّص طبيب سويسري الحالة النفسية لعدد من الجنود ونسب مرضهم العقلي والجسدي لرغبتهم الشديدة وشوقهم للعودة إلى الوطن. لكن نحن بإمكاننا التحكم فيها، فكلما زادت إنجازاتنا ارتفع مستوى رضانا عن حاضرنا، وكلما رضينا عن حاضرنا عشنا في سعادة دائمة، وبالتالي نضع النوستالجيا على الهامش، فهي تقل ولا تختفي، فلنستدعِها عند الحاجة فقط إلى تذكيرنا بإنجازاتنا، وتكون دفعة قوية للحاضر وللمستقبل.. ودمتم سالمين.

Abdulla.alqamzi@emaratalyoum.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر