لحظة

«كل شيء عادي»

ياسر حارب

كنت أتصفح قبل أيام مجلة «الرسالة»، التي كان مديرها ورئيس تحريرها الأديب المصري أحمد الزيات، وضمّت في سنواتها العشرين (1933 - 1952) دُرر الأدب العربي الحديث. فوقفت على خبرين في باب «كشكول الأسبوع» المخصص لأهم الأخبار، نَصُّ الخبر الأول: «صدر مرسوم ملكي بتعيين الأستاذ محمود تيمور بِك عضواً عاملاً بمجمع فؤاد الأول للغة العربية، وسيتخذ المجمع الإجراءات المتبعة لاستقباله في جلسة علنية يُحدد موعدها قريباً». ومحمود تيمور هو الأديب المصري الذي أطبقت شهرته الآفاق، ولمكانته الرفيعة أعلنت المجلة، ليس عن مرسوم تعيينه فقط، بل أيضاً عن أن المجمع سيستقبله في جلسة علنية، احتفاء بمكانته.

الخبر الثاني يتحدث عن كلمة ألقاها طه حسين في احتفال المعلمين، وقال في حديثه عن واجب الدولة في التكفل بمصروفات المُعلّم: «إن الدولة يجب أن تستحي من هذا الرجل الذي يسهر سواد ليله على الكراسات، وبياض يومه في التعليم، ولا يجد ما يقيم الأود». ولأن طه لم يكن عادياً، أوردت المجلة خبرين عنه في الباب نفسه. تساءلتُ: لماذا يهتم المجتمع في تلك الأيام بقراءة هذه الأخبار؟ ولماذا يُعَيَّـنُ أديب في مجمع اللغة العربية بمرسوم ملكي؟ فأدركتُ بأنني أعيش في زمن صار كل شيء فيه عاديّاً، فأصبحتُ لا أستطيع أن أُقدّر بتفكيري المُشتت وذوقي الذابل أهمية تلك الأحداث التي جرت في زمن كانت المجتمعات فيه تنضَحُ فكراً وعُمقاً، ولم يكن الأشخاص يكتسبون قيمتهم بمدى شهرتهم، بل بغزارة معرفتهم، وبإتقان مهنهم، وبِنُبْل ما يقدمونه للبشرية والحياة. كان المشاهير أصحاب قيمة حقيقية، على المسرح وأمام الشاشة وعلى الأوراق وبين الأوتار. كانوا جزءاً من أغنياتهم، وامتداداً لنصوصهم، وانعكاساً حيّاً لأعمالهم الفنيّة، ولهذا لم يكونوا عاديين.

في ذلك الزمن لم يكن شيء عادي، كانت للانبهار قيمة حقيقية، وكانت الدهشة من صفات الناس في المجتمع. لا أعرفُ متى كانت آخر مرة شعرت فيها بالذهول حقاً! رغم كل ما نُشاهده على التلفاز والإنترنت من مشاهد الجليد الذي يهوي من علّو شاهق في المحيط، إلى فوهات البراكين الثائرة التي تقترب منها كاميرات التصوير حتى تشعر بأنك في وسط الحِمَم، إلى مشهد الحوت الأبيض وهو يطفو بمَلَكيّته على سطح البحر، إلى صورة الألعاب النارية الصاعدة في السماء على شكل سُلّم كل هذه المشاهد أصبحت عادية! كُلّ الأغنيات، والألحان، والروايات، واللوحات والصور.. كُلّ شيء صار عادياً. لا شيء مُبهِراً، لا قيمة للأشياء وكأن الحياة صارت باهتة الألوان، ولا أقول هذا من شعور بالإحباط، بل أحاول وصف حالة إنسانية عامة. أصبح من يتحدث بعمق يوصَمُ بأنه يتفلسف، وأنه يعيش خارج زمنه.. يا الله، حتى الفلسفة صارت عادية!

عندما أمشي في أي مدينة في العالم قَلّما أشعر بالدهشة، فأتذكر كلام هنري ميلر في وصف نيويورك: «نيويورك! (…) قبل كل شيء الضجر، رتابة الوجوه، الشوارع، السيقان، البيوت، ناطحات السحاب، الوجبات، الملصقات الجدارية، الأعمال، الجرائم، علاقات الحب.. مدينة كاملة فوق هُوَّةٍ من العَدَم، عبَثٌ تام». قد تتساءلون الآن: «ألا يكفيك أن تعيش في زمن فيه إنترنت وهواتف ذكية وطائرات نفاذة وعلاجات طبية متقدمة وصالات سينما عملاقة…؟» وسأقول: «كل ما ذكرتم جميل، وأحبه… لكنه عادي».

yasser.hareb@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر