لحظة

المجتمعات المهزوزة

ياسر حارب

حضرتُ قبل أشهر عدة دورة تدريبية حول «التأمل الارتقائي»، أو التجاوزي، كما يسميه البعض، وهو أحد أسهل أنواع التأمل، إلا أنه قد يكون أكثرها مواءَمة لإنسان القرن الحادي والعشرين، فالجلسة الواحدة لا تستغرق أكثر من عشرين دقيقة، ويكفي المُتأَمِّل أن يتأمل مرتين في اليوم ليشعر بتغير كبير في حياته. ولأنني استفدتُ من هذا التأمل كثيراً، فإنني تحدثتُ عنه في «سناب شات» ودعوتُ الناس لممارسته مع مدرب محترف، حيث لا يستغرق البرنامج التدريبي ساعة ونصف الساعة لأربعة أيام، وبعدها يمكن للمتدرب أن يتأمل بنفسه.

إلا أنه في الجلسة الأولى يقوم المدرب بوضع صورة «مهاريشي ماهش يوغي» وهو مؤسس هذا النوع من التأمل، ثم يتلفظ ببعض الترانيم باللغة السنسكريتية وينثر الأرز على الصورة، مع إشعال الشموع والبخور، في إشارة رمزية لتكريم مهاريشي على الطريقة الهندية القديمة. وفي بداية الجلسة يقول لك المدرب إن هذا الطقس - الذي يقام لدقائق عدة في اليوم الأول فقط - ليس دينياً ولا عِرْقياً، وإنما هي طريقتهم في شكر المؤسس.

بعد أيام من حديثي عن التأمل أتتني رسائل واتصالات عدة من أُناس تحمسوا وذهبوا للتدريب، إلا أنهم انصرفوا في الدقائق الأولى، عند بداية التمرين عندما شاهدوا طَقْس الشُّكر، معتقدين أن في ذلك شِرْكاً بالله. حتى رغم تأكيد المدربين بأنهم لا يمارسون أي طقس ديني، فإن «ربعنا» أصروا على أنه شركٌ ولم يكملوا التدريب! وربما تكون هذه التجربة انعكاساً لإحدى مشكلاتنا في المجتمعات العربية وهي ضَعْف الشخصية، سواءً على المستوى الديني أو الاجتماعي. فنحنُ - مثلاً - نُصرّ على البحث عن أكل «حلال» عندما نزور أوروبا رغم أن الله تعالى قال لنا في كتابه الكريم: «وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ»، إلا أننا - كما يبدو - ليست لدينا ثقة بإيماننا، لأننا لسنا مؤمنين عن عِلْمٍ بل عن وراثة، ولا نعرف ديننا إلا من خلال فِكْرٍ واحدٍ سيطر على العقل الإسلامي لعقود عدة، ربّانا على أن الآخر خطر، وأن الشرك بالله قد يكمن في أدق تفاصيل الحياة! وهو الفكر نفسه الذي يجعل أحد أصدقائي يثور غضباً كلما رأى صليباً مُعلقاً في سيارة بجانبه في الشارع، فيشعر حينها بالحاجة لصدم تلك السيارة وقتل سائقها على حد قوله! إن قائل هذه العبارة هو شاب في الثلاثينات من عمره، يعمل في مؤسسة متحضرة، وتقود بلاده حكومة منفتحة على جميع الأديان والثقافات، وفي مجلس وزرائها وزيرة للتسامح!

نعم، أُدرك أن التسامح لا يعني أن يتخلى الإنسان عن دينه - كما سيظن البعض عندما يقرأ هذا المقال - ولكنه يعني أن نعترف بعُقدنا النفسية، وأن نراجع مفهومنا للدين العظيم وتعاليمه السامية التي صرنا نخاف منها، عن جهل، أكثر مما نفهمها! صرنا نخشى أن نتعلم شيئاً جديداً قبل أن نتأكد من أنه لا يمس العقيدة، ولا نحتمل أن نخوض نقاشاً حول الدين لأننا نعتقد أن في ذلك إهانة له. وهنا يراودني سؤال: إذا كان إيماننا راسخاً كما نعتقد، فلماذا نتردد وننفعل ونخاف ونغضب؟ يقول غوستاف لوبون: «التشدد في الرأي يَغْلِبُ على التسامح فيه، لأن الأول مبني على الشعور، والثاني مبني على العقل».

yasser.hareb@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر