لحظة

الأندلس لن تعود

ياسر حارب

تشغل الأندلس مساحة دافئة في مخيال المسلم العربي، فكلما ذُكِرَت أمامه، عاد به الحنين إلى أيام الأمجاد والحضارة، حتى ولو كان خليجياً يسكن الصحراء. ورغم بُعد المسافة بين هذه المناطق الجغرافية والأندلس، ورغم أن الأندلسيين لا يمتّون إلينا بأي صلة غير الدين، حالهم في ذلك كحال الإندونيسيين والبنغاليين، إلا أننا نعتبرهم - مجازاً - أجدادنا!

هل يعني هذا أننا لا يجب أن نُحب الأندلس؟ على العكس تماماً فلقد كانت مرحلة مهمة في التاريخ الإسلامي والإنساني بشكل عام، لكن لماذا نتحدث عنها وكأنها أحد أملاك المسلمين؟ فكلما ذهب رجل دين أو واعظ وصوّر برنامجاً تلفزيونياً هناك، لا ينفكّ يؤكد شوقه لاستعادة المسلمين للأندلس! تصوّر معي لو أن فرنسياً خرج في الإعلام وقال إنه يشتاق لعودة مصر إلى فرنسا، أو لو أن إنجليزياً اشتاق لعودة الهند إلى بريطانيا، فكيف سيُنظَرُ له؟

لقد احتل المسلمون الأندلس بالقتال تماماً كما احتل غيرهم دولاً أخرى عبر التاريخ، وعلينا أن نكون صادقين في ذكر هذه الحقائق التاريخية دون أن نحاول تلطيفها ونقول (فَتَحَ المسلمون الأندلس)، محاولين تشبيه الأمر وكأنه فَتْحُ مكة. فلقد خاض المسلمون - من عرب وبربر - معارك طاحنة ضد القوط الإسبان حتى احتلوا أراضيهم، لكن الفرق في هذا الاحتلال أنه أنشأ دولة حضارية، وإن كان بعد ست وأربعين سنة على يد عبدالرحمن الداخل، وأنشأ معارف وعلوماً وفنوناً كثيرة إلى أن وصلت الحضارة الإسلامية إلى ذروتها. وربما نحتاج اليوم إلى أن نتجاوز عن سرد حكايات المعارك والانتصارات، ونتوقف عن الغوص في دهاليز السياسة التي كانت تضجّ بها أروقة قصور الحُكم في غرناطة وإشبيلية، ونكفّ عن الحديث عن قصر الحمراء ومسجد قرطبة الكبير، وغيرهما من المباني الأثرية، التي رُغم جمالها، إلا أنها كانت مُجرّد صورة لمجتمع مُتحضّر ومتقدم لا نعرف كثيراً من تفاصيله اليوم.

نحتاج إلى التوقف عند اكتشافات الزهراوي الطبيّة، وعند أدب ابن طفيل وتجارب ابن البيطار، وحكمة ابن حزم وابن باجة، وغيرهم من عشرات العلماء والفلاسفة الذين أضاؤوا العالم بفكرهم وأطروحاتهم. ورغم أن العلوم التي أنتجها المسلمون في الأندلس وفي المشرق العربي عموماً لم تعد صالحة اليوم للاستخدام والتطبيق - ماعدا الفلسفة - فلقد تقدمت العلوم كثيراً وألغت معارف الأولين، إلا أننا نحتاج إلى القراءة عن أولئك العظماء لنستنير بقبسهم لا لنشفى بطبّهم، ففلسفة ابن رشد اليوم أولى من معرفة «فتوحات» الخليفة عبدالرحمن الناصر، وتراث ابن باجة أهم من دسائس وحِيَل الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر.. تلك الأندلس التي لا نعرف هي ما نحتاج إلى أن نبحث عنه.

الأندلس لن تعود إليكم فاستريحوا، وإذا أردنا أن نعيش في الأندلس حقاً فربّما نحتاج إلى أن نقرأ التاريخ جيداً، لنُدرِكَ أن الحضارة كامنةٌ في الإنسان أكثر من الزخارف والبُنيان.

yasser.hareb@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر