5 دقائق

حفلة عزاء

عادل محمد الراشد

ربما يجد القارئ غرابة في عنوان هذه المقالة، لكن الأغرب هو ما استجدَّ علينا من عادات خلطت الأمور وقلبت المعاني، فجعلت المجتمع ومؤسساته ومصلحيه مشغولين بالبحث عن وسائل وطرق لعلاج ظواهر سلبية، ابتدعناها وما كتبت علينا.

الغريب أن تتحول مناسبات الحزن، ومجالس العزاء، إلى ما يشبه الحفلات، في شطط اجتماعي غادر كل الموروث الشرعي والتراثي، وغاص في مستنقع المباهاة الذي سبق أن جرف مناسبات الفرح.

أفراح الزواج صارت مصدر قلق عام يشتكي الجميع منه، والجميع واقع فيه، بأيدينا لا بيد عمرو ولا زيد ولا عبيد. وأصبح طرح افكار لتقليص مصاريف حفلة ليلة العرس يدون في سجل مبادرات الابتكار، فمنهم من يتجه لاقتصار الحفلة على النساء والسحب على الرجال والهروب من أيام آخر الأسبوع بدعوى التوفير، وما أظن أن المشكلة تكمن في حفلات الرجال وإنما في تقاليع حفلات النساء، وهذه تحتاج إلى ورقة وقلم، لتسجيل قائمة متطلباتها التي تخرج عن مصاريف القاعة والعشاء، إلى تفاصيل تثير هلع الشباب المقبلين على الزواج. وحتى حفلات العشاء للرجال التي تحولت إلى حفلات استقبال نهارية، لم توفر للشباب سوى دراهم معدودات، بعد أن التفت الفنادق والأندية الكبرى على التوجه لتبقى المصاريف في مستواها المرتفع. لكن الأغرب من ذلك أن تتحول مناسبات الحزن ومجالس العزاء إلى ما يشبه الحفلات، في شطط اجتماعي غادر كل الموروث الشرعي والتراثي، وغاص في مستنقع المباهاة الذي سبق أن جرف مناسبات الفرح. خيام تنصب لمدة ثلاثة أيام وربما تزيد يوماً أو بعض يوم لزوم استقبال المعزين، وبأجر يومي يراوح بين 10 و20 ألف درهم، وسلال فواكه تزين طاولات الوسط في الخيمة، ومشروبات ساخنة وباردة تطوف على المعزين بلا توقف، ثم ختام اليوم بموائد عشاء تكفي لعشرات وربما مئات الأشخاص. وساعات مفتوحة للزيارة ربما تمتد إلى ما قبل منتصف الليل في سهرات سمر و«سوالف»، دون مراعاة لمعاناة ومشاعر ذوي المتوفى. هذه العادات لا هي من عاداتنا ولا تقاليدنا، ولا يقرها شرع، ولا يدعمها دليل. هي آفة من آفات ثقافة الاستهلاك وهدر الوقت والاستهانة بالنعمة.

قبل شهور، حضرت مجلس عزاء لعزيز في دولة الكويت، فرأيت أهل المتوفى يستقبلون المعزين في مجلس بيته. ولم أشاهد على الطاولات غير زجاجات مياه الشرب. وخلال نصف الساعة الذي قضيته في المجلس لم أرَ أحداً من المعزين، منهم الوزير ومنهم النائب في البرلمان، قد تجاوز حضوره خمس دقائق، مخففاً الزيارة، ومفسحاً المجلس لغيره من الزوار. وكان أذان الظهر هو موعد إغلاق المجلس صباحاً، وأذان المغرب مساء. فلا مآدب ولا سهرات ولا أحاديث في البيع والشراء ومباريات الدوري ونتائج المنتخب. ذلك هو الأصل الذي غادرناه كأشياء أخرى تحت لافتة المباهاة، حتى صارت مجالس أحزاننا حفلات عزاء.

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 
 

تويتر