لحظة

مُصالحة المسلمين مع الإسلام

ياسر حارب

نشأت محاكم التفتيش في أوروبا عام 1233م، بقرار من البابا غريغوريوس التاسع، واستمرت حتى القرن الثامن عشر تقريباً. شنّت الكنيسة حرباً شعواء على اليهود والمسلمين والمهرطقين (العلماء)، وحاربت كل نظرية تُخالف المبادئ اللاهوتية، سواءً العلمية أو الفلسفية، وأنشأت لجنة «لتحريم الكتب» في الفاتيكان. إلا أن قليلين يُدركون أن تطرّف الكنيسة الفكري في أوروبا لم ينتهِ إلا في الستينات من القرن العشرين، عندما دعا البابا يوحنا الثالث والعشرون لعقد «المَجْمَع الفاتيكاني الثاني» بين عامي 1962 و1965، وصدرت عنه جملة قرارات كانت نقطة تحول في المسيحية.

فبعد قرون من تكفير الآخرين، أقرّ المجمع الكنسي الذي حضره 2600 أسقف من جميع أنحاء العالم، إلى جانب مراقبين من مختلف الكنائس العالمية، بالحرية الدينية. ليس ذلك فقط، بل أعطى الحق الشرعي لرعايا الكنيسة في حرية الاعتقاد من عدمه، واعترف المسيحيون لأول مرة في التاريخ، بأن الحقائق تعلم أيضاً في ديانات ومذاهب غير الكاثوليكية.. أي إنهم أقروا بأنهم ليسوا وحدهم من سيدخل الجنة، وليسوا وحدهم على حق، فلربما شاركهم الآخرون بعض الصواب، والجنّة أيضاً. كما وافق المجمع على التأويل الحديث للدين، وعلى المصالحة بين المسيحية والحداثة.

وهنا نحتاج إلى إدراك حقيقة مهمة، هي أن مفكري أوروبا الذين يحتفي العالم بهم، كسبينوزا وفولتير وروسو ومونتسيكيو وكانط وديكارت وغاليليو ونيوتن وغيرهم، لم يكونوا مقبولين في الكنيسة، ولولا تسامح الدول البروتستانتية كهولندا وإنجلترا اللتين احتضنتا بعض أولئك المفكرين والعلماء، واللتين كانتا حاضنتين لطباعة الكُتب المحرمة، فلربما ماتت تلك المعارف والعلوم في مهدها دون أن نعلم عنها شيئاً.

إذن، يمكننا أن نقول إن الظلام الفكري الذي أخذت أوروبا تتحسس طريقها للخروج منه في بدايات القرن الرابع عشر تقريباً، ظل مُهيمناً لقرونٍ طويلة حتى أنهته الكنيسة تماماً في ذلك الاجتماع الفاتيكاني الطويل، ولكن نتيجة لتأخرها، صار الدين في أوروبا - حتى قبل انعقاد المجمع - شيئاً جانبياً، وأخذ ينحسر مع الوقت، فمن يُصدق أن فرنسا، حامية حمى الكاثوليكية، والدولة القروسطية الأكثر تشدداً تتحول إلى دولة علمانية! إنها ردة فعل طبيعية لما عانته من ويلات الحروب الدينية، ويبدو أننا في الدول الإسلامية على شفا حُفرة من تلك النتيجة. فكم نسمع في الأخبار ونقرأ في المقالات هذه الجملة «الإرهابيون لا يُمثلون الإسلام.. نحتاج إلى عرض صورة الإسلام الصحيحة». وسؤالي هو: ما الصورة الصحيحة للإسلام؟ ألا يستخدم الإرهابيون آيات من القرآن الكريم، وأحاديث شريفة صحيحة، ومقولات الأقدمين، لتبرير أفعالهم؟ هل نحن مُدرِكون حقاً لـ«الصورة الصحيحة للإسلام»، أم أننا نقول ذلك فقط لنبرئ أنفسنا من الإرهاب؟ ألا تعتقدون أننا قبل أن نُدافع عن الإسلام اليوم، نحتاج إلى مجمع إسلامي يجتمع فيه كبار علماء المسلمين، ليناقشوا المبادئ الإسلامية والمفاهيم الحضارية للدين، ويخرجوا بإعلان جريء كإعلان مجمع الفاتيكان؟

لا أعرف أمّة تحتاج إلى مجمع مثل هذا كالمسلمين اليوم حتى يعود إليهم رشدهم، ويبقوا في سياق الحضارة. نحتاج إلى الإقرار بمشكلاتنا الفكرية، ثم نضع حلولاً لها حتى نصل إلى مرحلة من التصالح مع الذات أولاً، ومع الإسلام ثانياً، لأنه يبدو أننا لدينا مشكلة داخلية مع أنفسنا ومع الدين كذلك.

yasser.hareb@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر