5 دقائق

طلع البدر علينا

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

طلع البدر علينا ...

من ثنيَّات الوداع

وجب الشكر علينا ...

ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا ...

جئت بالأمر المطاع

هذا النشيد الذي يردده ملايين المسلمين على مختلف العصور، وتناقلته الرواة جيلاً بعد جيل، ودونته أمهات مراجع الحديث والسير والتاريخ؛ لأنه يتحدث عن واقعة عظيمة للأمة الإسلامية؛ إنها هجرة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، التي كانت إيذاناً بالفرج بعد الشدة، والفتح بعد الإغلاق، والانطلاق بعد الحبس.. ويعبر عن كمال الإيمان بمحبة النبي، صلى الله عليه وسلم، وشكر الله تعالى على عظيم مِنَّته ببعثة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتخليصه من أعدائه، ويعبر عن كمال الطاعة لله، عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ويعبر عن فخر المدينة أرضاً وإنساناً، صغاراً وكباراً بحلول رسول الله، عليه الصلاة والسلام، بين ظَهرانيْهِم لينشر دين الله تعالى في الأرض.نشيد عفوي لم يكن من قول الشاعر المفلق المؤيد بروح القدس، حسان بن ثابت، رضي الله عنه، ولا من شعر عبدالله بن رواحة، ولا من شعر كعب بن زهير صاحب البُردة، ولا من شعر غيرهم من شعراء العرب الفصحاء في المدينة أو غيرها، بل هو من شعر عامة أهل المدينة؛ انطلقت به ألسنتهم بعفوية لتعبر عما تُكِنُّه ضمائرهم من عظيم الغِبطة بهذا الوافد القائد الماجد، صلى الله عليه وسلم، انطلقت به ألسنتهم بعفوية، حينما رأوا طلعته الشريفة البهيَّة، بعد طول انتظار وترقب في وضح النهار وحر الشمس الذي غلبته حرارة الإيمان ولذة اللقاء، فما فرحوا بشيء كفرحهم بمقدمه، صلى الله عليه وسلم، انطلقت به أفئدتهم قبل ألسنتهم، وأسِرَّة وجوههم قبل شفاههم، فكانت خير ترحيب، وأكرم ضيافة، وأعظم حفاوة، لم يلتقِ مثلها أحد من عظماء الدنيا على مر التاريخ، هذا النشيد الذي كان يسمعه النبي، صلى الله عليه وسلم، فيقرهم عليه ويحبِّذ سماعه، فكان سنة من سننه عليه الصلاة والسلام بإقراره، وهو إقرار بمضمونه الإيماني المستكِن في القلوب، والإسلامي المتمثل بالجوارح طاعة وعملاً، وهو ثناء على المولى الكريم المتفضل بهذه النعمة العظيمة التي لا تُوازى بشيء من النعم. فكان كل ذلك سبباً لمحبة الله تعالى ورسوله والمؤمنين لهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فسطَّر لهم النبي، صلى الله عليه وسلم، مرسوماً نبوياً تشريعياً أنه «لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق»، ومرسوماً آخر بأنهم «كرشه وعَيبته»، ومرسوماً ثالثاً أن «الناس دِثار والأنصار شعار»، وآخر أن «المحيا محياهم والممات مماتهم».. كل ذلك لمِا كانوا عليه من مظهر المحبة ومخبرها، المحبة التي أوجبت لهم تلك المراسيم النبوية العظيمة التي يفتخرون بها ويفاخرون بها من يساميهم في الفخر من الهاشميين والقرشيين عليهم الرضوان.

هذا النشيد العظيم الذي حلَّت ذكراه علينا قبل أيام، فلم يكن لدى الكثير من المسلمين شيء من ذلك الشعور الذي كان لدى وِلدان الأنصار وجواريهم وصغارهم وكبارهم، تمر علينا ذكراه عاماً فعاماً فنغفل عن مدلوله العظيم، ونتناسى تلك الهجرة المباركة التي عمت بركتها الكون كله، فلولا هي لم يكن الإسلام لينتشر في الخافقين، ويصل المشرقين والمغربين، الإسلام الذي ارتضاه الله لنفسه ديناً، واختار له سيدنا محمداً، صلى الله عليه وسلم، رسولاً، والأوس والخزرج أنصاراً، والمدينة عاصمة، فلو أن كل المسلمين كانوا مهتمين بسيرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لاتخذوا من هجرته الشريفة مع العدو أسلوباً للتعامل، ومع الأسباب المادية عدة للنوازل، ومع الأولياء وفاء، ومن الحدث تاريخاً لا يُضيَّع، ومن التوكل على الله وعدم اليأس منهج حياة، وإذْ قد تناسى المسلمون كثيراً من هذه الأمور التي يجدونها في الهجرة المباركة فإن هذه ذكرى لعلها نافعة.

* «كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .  

تويتر