أبواب

تبادل أدوار..

أحمد حسن الزعبي

كانت واحدة من علامات إكرام المعلم للطالب في زمن صفوف الابتدائي أن يمنحه شرف «مسح اللوح» من الطبشور.. لذلك ما أن تتم إمالة رأس الأستاذ المعروفة لأحد الطلاب للقيام بهذه المهمة حتى ينطلق بسرعة الصاروخ، كأنه قد تلقّى ترقية خاصة لم يكن ليحلم بها من قبل، فرح وسرور وزهو وتخليد رذاذ الطبشور على الأصابع أطول فترة ممكنه ليتذكّر «أيام النعيم»، ناهيك عن فقاعات الحسد التي كانت تتكاثر في صدور الطلاب الآخرين، كيف لفلان أن «يمسح اللوح» ثلاث مرات ونحن لم نمسحه غير مرة واحدة! في ظل هذا التنافس المحموم لم يكن فراس يعنيه الجري وراء لهو الدنيا.

بعد ثلاثين سنة من انقطاعنا.. فراس الآن تاجر سيارات مهم، يستورد ويصدر ويتعامل مع القطع الثقيلة والشاحنات الحديثة، واسمه بحد ذاته علامة فارقة في السوق.. أما أنا وفي هذه اللحظات الحاسمة من العمر.. «فمسطول ومعاي جيوب أنفية»!

عند المشاركة في الإجابة عن السؤال ترتفع الأصابع وتعلو فوق بعضها مع عبارة متكررة لتلفت الانتباه: «نعم أستاذ.. أنا أستاذ.. يا أستاذ» فيختار المعلم أحد رافعي الأصابع.. بينما فراس خارج التغطية لا يهتم بالمشاركة، ولا يكترث بأي صفحة وصل الدرس أيضاً، هو معني بالدرجة الأولى بإخراج محرمة من جيبه ليمسح ما يرشح من أنفه أو يستخدم ردن بلوزته الخضراء في كثير من الأحيان لسماكة الصوف وقدرته على الامتصاص.. لم أره يوماً يشارك، أو يبادر بحل مسألة، أو يخرج ورقة لامتحان ليكتب إجابته، على العكس كان شارد الذهن دائماً، قليل الابتسام كثير التثاؤب، يفتح عينيه الخضراوين على دهشة دائمة، ويترك فمه على اتساعه بسبب صعوبة التنفس الناتج عن التهاب مزمن في الجيوب الأنفية، كان لا يميز بين الكتب، ومعظم الأحيان لا يخرجها على سطح المقعد.. هو ينتظر حصة الدين بفارغ الصبر لأنها غالباً تكون الحصة الأخيرة التي تتبعها «الترويحة».. ولأنه يقلب الميم والنون باءً.. بسبب انسداد الأنف بالاتجاهين.. كان يسألني بصوت خافت وفي حالات نادرة عن كنه الحصة «هاي حصة علوب ولا ديب».. فأقول له «دين».. فيبتسم ويعود إلى السرحان العميق.. هو يعتبر أن الدراسة مجرد شرنقة تحتضن جناحيه لوقت الطيران، لا يريد أن يطلقهما الآن.. ولا يكترث بالنجاح والرسوب.. هذه لعبة الصغار، أما لعبته فلم تبدأ بعد..

بعض المعلّمين كانوا يعتقدون أنه يعاني إعاقة عقلية، لأنه لا يستجيب لأي نوع من أنواع الدروس، ولا يتفاعل مع أي أسلوب من أساليب التدريس؛ لكنهم كانوا يعدّون للعشرة عندما يرون إبداعه في الشتائم على أبناء صفه وقت انتهاء الدوام، والتي أيضاً تقلب الميم والنون باءً ولم يقتصد يوماً بالشتائم الجماعية التي تنتهي بـ«الأبّهات» كما كان يلفظها عن «الأمهات»، ومع ذلك كلما حضر مشرف تربوي ورآه ملهياً بالمحرمة وبالنظر إلى السقف كان يأخذه المعلم جانباً ويقول له: «مسطول ومعاه جيوب أنفية»، حتى المعلم الجديد الذي يحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه في فراس كان هو نفسه يختصر عليه القصة بهذا التعريف «أستاذ أنا بسطول وبعاي جيوب أبفية».. بقي هذا اللقب مرضياً لفراس، ومرضياً للمعلمين وللعملية التربوية برمّتها «مسطول ومعاه جيوب أنفية» فلا يقربنه امتحان ولا يمسّه سوء تقدير، وعلامة النجاح تأتيه على حسن الاستماع.

بعد ثلاثين سنة من انقطاعنا.. فراس الآن تاجر سيارات مهم، يستورد ويصدر ويتعامل مع القطع الثقيلة والشاحنات الحديثة، واسمه بحد ذاته علامة فارقة في السوق.. أما أنا وفي هذه اللحظات الحاسمة من العمر.. «فمسطول ومعاي جيوب أنفية»!

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

 

تويتر