أبواب

المرتاحون

أحمد حسن الزعبي

لنعترف كانت الحياة بسيطة، مفرداتها نقية، خطوطها أكثر وضوحاً، والمستمتعون بشقائها كثر، مغلقة من حيث الجغرافيا والمعرفة ربما، لكنها مفتوحة من حيث المحبة وتقبل الآخر، لا «كوتا» زمنية للضياع، لا وقت مشرّعاً للهدر، الوقت كل الوقت مملوء بالعمل أو بالتأمل، وبالتالي القلوب في مجملها سليمة من الأمراض. 

• كانوا يتعبون بأجسادهم لترتاح قلوبهم وعقولهم، الآن أجسادنا مرتاحة لكن عقولنا وقلوبنا مشغولة بالنكد والمناكفة والحقد والضيق بالآخر.

كان الفلاح يخرج إلى أرضه صباحاً، يحرثها، يقتلع شوكها، يتفقد ترسيم حدودها، يعيد تعمير الحجارة عند الضرورة، يصحح وقفة غرسة مالت مع الريح، يفطر من نتاجها، يرتاح يتأمل ثم يعاود العمل.. في آخر النهار ثمة جدول لمهام أخرى، يعلف مواشيه في حوش الدار، ويطمئنّ على دجاجات البيت ورفوف الحمَام البلدي (عناصر معيشته الأساسية)، كما يطمئنّ القائد على عناصر كتيبته. بعيد المغرب يجلس مع أولاده كأي كائن حي استسلم للتعب النهاري والشوق الأبوي، ثم ينام منتظراً إشراقة يوم جديد.. العامل والصانع وصاحب المهنة والموظف الحكومي كلّهم كانوا يسلكون سبل عيشهم بالطريقة ذاتها، إشغال الوقت بالإنتاج، وحشو أيام العمر بثمار التعب لا بصفير الفراغ الذي يمر بينها نتيجة الجلوس والبطالة.

كانوا يتعبون بأجسادهم لترتاح قلوبهم وعقولهم، الآن أجسادنا مرتاحة لكن عقولنا وقلوبنا مشغولة بالنكد والمناكفة والحقد والضيق بالآخر، ساعات طوال يقضيها كل منا على مواقع التواصل الاجتماعي، نهدر الوقت بالتصفح وإدلاء الآراء بجهل والمحاججة العوجاء، والترصد للآخر، كنا نبحث عن مساحات نمارس فيها تحدياً للآخرين، وبعد الضجر نخرج من صفحات التواصل غاضبين حانقين، لا نحس بقيمة حجم الخسارة أو الفرصة المضيعة من البقاء ساعات طوالاً نحاور الوهم ونترصد الوهم ونسجل أهدافاً على الوهم ونشتم الوهم ونحقق انتصارات على الوهم.. كلما رأيت عجوزاً يجلس أمام باب بيته يتأمل وجوه المارين ويرد السلام بشغف على كل المحييّن، تلاحق عيناه بعض العصافير التي تمر بأسراب سريعة فوق رأسه، يختبر نظره في مشاهدة ضوء المئذنة، فيتذكّر مهمته القادمة، ناظراً إلى ساعته ليتأكد من اقتراب الأذان.. في أحسن الأحوال يحمل هاتفاً نقالاً «نوكيا 3310»، يرد على المتصل بحرارة وصوت مرتفع، لا يهمه نسبة الذكاء التي يصنّف فيها هاتفه، ولا حجم التخزين، يكفي أنه لا يستقبل إلا الأصوات النقية جداً والصادقة جداً.

كلما تابعت ما يسببه «فيس بوك» و«تويتر»، وغيرهما من ضيق، وتجهيل في بعض الأحيان، وأمراض اجتماعية وتعبئة حقيقية وإقصاء في كثير من الأحيان.. قلت هنيئاً لكل الموسعين قلوبهم وعقولهم، الذين خرجوا طواعية من هذا العالم الضيق.

ahmedalzoubi@hotmail.com

 

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر