لحظة

1437 ميلادية!

ياسر حارب

بعد ثلاث سنوات من عام 1437 ميلادية سيخترع الألماني غوتنبيرغ الآلة الطابعة؛ ليغير بها مجرى التاريخ، وتَدخُل المعارف إلى المنازل والعقول. قبل ذلك التاريخ كان الإنسانيون (نسبة إلى الحركة الإنسانية)، الذين عكفوا على دراسة الإنتاج الفكري للحضارات الرومانية والإغريقية والإسلامية، ثم وظّفوها لاستعادة مكانة الإنسان وكرامته بعد أن سحقتها الكنيسة باسم الدين؛ كانوا عاجزين عن إيصال فكرتهم إلى الناس، حتى أتت الطابعة وجعلتهم على كل لسان. قبل ذلك العام كانت القراءة محدودة، والوصول إلى المعلومة مقتصراً فقط على رجال الدين، والمُعلّمين الذين كانوا أيضاً في أغلبيتهم العظمى من رجال الدين. لم يستطع أحد أن يفكر من دون إذن الكنيسة.

كان المثقف مرفوضاً، والفكر الحُرّ مقيّداً، والأصوات التي تُطالب بالتحرر من سلطة الكهنوت مكبوتة، وكانت العلوم في أغلبها هرطقة، إلا علم اللاهوت، وكانت جامعتا السوربون وكامبريدج لاهوتيتين. وكان رجال الدين يعالجون المرضى النفسيين بإشعال البخور والشموع وقراءة التمائم، أو كَيِّهم بالنار لطرد الأرواح الشريرة منهم. لم تكن للعلم مكانة، فاللاهوت الكنسي كان كافياً، ورجال الدين لديهم الإجابات الشافية، لشؤون الدنيا والآخرة.. باختصار: كان الجهل قابعاً على الحياة.

وأذكر أنني شاهدتُ قبل أشهر مقطع فيديو لشاب عربي يتحدث فيه عن أساليب التغذية الصحيحة، ولكنه كان يقرأ أقوال أبي حامد الغزالي في «إحياء علوم الدين»، الذي كُتب قبل ألف عام تقريباً! دخلتُ «يوتيوب» وبحثتُ عن أعداد مشاهدات البرامج التاريخية، فوجدتها بمئات الآلاف وبعضها بالملايين. بحثتُ عن برامج تقنية وأخرى علمية، فوجدتُ المشاهدات لم تتعد بضعة آلاف؛ والسبب أننا مازلنا شعوباً «ماضوية» تماماً كالأوروبيين قبل طابعة غوتنبيرغ. مازلنا نهيم في صراعات الماضي، ومعارف الماضي، وقصص الماضي، ولا نجد فرحاً ونصراً وإنجازاً إلا في الماضي! اكتُبْ مقالاً عن «الأندلس» وآخر عن تنافس «غوغل» و«فيس بوك» في مجالَي الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي، وستجد أن الأخير لن يقرأه أحد، رغم أن ما به يؤثر في حياتنا كل يوم، لأن الأندلس أقرب إلى مخيالنا الإنساني بسبب المدرسة والمنبر والتلفاز والكتب والبرامج، وإذا سألتَ أحدهم في أيّ حقبة تاريخية يود أن يعيش فسيقول الأندلس! سيترك السيارة والطائرة، وسيركب الحصان والبعير، لأننا علّمناه أن المجد والعزة والسعادة كانت فقط في الماضي!

نحن مازلنا شعوباً صوتية، تُحركنا القصيدة أكثر من الفكرة، وتقنعنا الخطابة أكثر من البُرهان.. ورغم أهمية القصيدة والخطابة، إلا أن العصر الذي نعيش فيه هو عصر العقل المَحْض، وأولى بنا اليوم أن نستوعب نسبية آينشتاين أكثر من ألفية ابن مالك، وأن نعرف عن الذكاء الاصطناعي أكثر مما نعرف عن الرشيد وعبدالرحمن الداخل. أتساءل أحياناً: لماذا لم تفعل بنا «غوغل» ما فعلته طابعة غوتنبيرغ في أوروباً!

نحن شعوب مازلنا نَقْلب عُلَبَ المشروبات الغازية ونقرأ ما كُتب عليها «بالمعكوس» لنكشف مؤامرات الغرب ضدنا. نحن مازلنا نؤمن بأن الأمراض النفسية سببها السحر أو الجن أو الحسد، وأن العلوم الحديثة مذكورة في التراث الإسلامي، لكننا فشلنا في اكتشافها حتى سرقها الغرب مِنّا، وهنا أتذكر قول أحد العارفين المُعاصرين عندما قال: «إننا نعيش في القرن الخامس عشر، لكن ليس الهجري، بل الميلادي!».

yasser.hareb@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر