5 دقائق

فإذا قضيتم مناسككم

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

تمام الحج، وأداء خامس أركان الإسلام يعني أن الحاج الذي أتم نسكه وقضى تفثَه، قد فتح صفحة جديدة مع ربه في الترقي في مقام العبودية لله تعالى والإنابة إليه ما بقي حياً، فإنه قد عاهد الله بالتلبية التي تعني الإقامة على طاعة الله إقامة بعد إقامة، لأنه قد هدم ما كان من سيئ عمل أو تقصير في واجب، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله»، وذلك هو الحج المبرور الذي يرجع منه الحاج كيوم ولدته أمه، ويرجع منه وليس له جزاء إلا الجنة كما صحت به الأحاديث، وقد فسر الحج المبرور بأنه الذي لم يخالطه إثم من حين الإحرام إلى حين التحلل، وهو الذي لم يرفث فيه الحاج ولم يفسق، ولم يقصر في واجب اختياراً، ولا ريب أن كل حاج قد كان ساعياً بجد لإدراك ذلك الفضل، فإنه إنما بذل نفسه وماله من أجل أن يُغفر ذنبُه وتُرفع درجاتُه، فإذا فاته ذلك يكون قد خسر خسراناً مبيناً، حيث كان باستطاعته أن يدرك ذلك الفضل فتوانى عنه، وقد ذكروا أن من علامات الحج المبرور أن يرجع الحاج بعد حجه بحال أحسن مما كان عليها؛ استقامة على الطاعة، ورُقِياً في الأخلاق، وبعداً عن المعاصي والسيئات.. وهذا كله مما يجب على المسلم امتثاله قبل الحج وبعده، لكنه بعد الحج تكون الطاعة متيسرة له، والمعصية بعيدة عنه بتوفيق الله تعالى، حيث يستشعر ما عاهد الله عليه في الحج، من تلبية ومن تقبيل للحجر أو استلامه أو الإشارة إليه، فإنه يمين الله في الأرض، يشهد لمن قبله أو استلمه أو أشار إليه كما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فيكون بذلك من الموفين بعهدهم إذا عاهدوا.

• الذاكر ينشغل بالمذكور سبحانه، عما سواه من غرور الدنيا، ومتاعها، وأشغالها الفانية.

وحتى يكون على هذه الحال بقية عمره وحياته، نجد الله تعالى يأمره بذكره بعد الحج كما كان يذكره في الحج أو أشد ذكراً، كما قال سبحانه: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾، وفي ذلك إشارة إلى أن إتمام الحج ليس خاتمة المطاف بالذكر الذي كان الحاج عليه، فقد كان لا يفتُر لسانه عن ذكر الله تلبية وتهليلاً وتكبيراً وتسبيحاً وتحميداً واستغفاراً وتلاوة للقرآن وصلاة وسلاماً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الأذكار مطلوبة منه بكثرة بعد الحج كما كان في الحج، عدا التلبية والتكبير المختص بالعشر وأيام التشريق، ويلاحظ أن الآية الكريمة لم تأمر بشيء من الطاعات بعد الحج إلا بطاعة الذكر؛ وذلك لغفلة الناس عنه مع عظيم منزلته عند الله تعالى، فإنه أكبر الطاعات لكون الذاكر ينشغل بالمذكور سبحانه عما سواه من غرور الدنيا ومتاعها وأشغالها الفانية، فيحمله ذكره ربه على ألا يقصر في واجب، فضلاً عن أن يقع في محظور، بل يحمله على المسارعة إلى الخيرات ابتغاء لمرضاة الله تعالى؛ لعظيم منزلته في قلبه، فكان أكبر من كل شيء سواه، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «ذكر الله أكبر مما سواه، وذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه». لذلك قال معاذ رضي الله عنه: «ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله»، ولهذا أمر الله بالإكثار منه في غير ما آية، وهذه الآية الكريمة وصية ربانية للحجاج، عليهم أن يمتثلوها ويطبقوها في واقع حياتهم، كما كانت عليه حالهم في حجهم وفي حرمه ومقدساته.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر