5 دقائق

مأرز الإيمان

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحرها»، والمعنى أن المدينة المنورة وطيبة الطيبة ودار الإيمان، ستكون مثوى الإيمان والمؤمنين إذا انحسر من البلدان أو من بني الإنسان، فيجتمع فيها ويؤوب إليها المؤمنون من كل مكان ، كما أن الحية ترجع إلى جحرها وتثوي فيه، وهذه الفضيلة خاصة بها لا توجد لأي بلد آخر.

«الدجال» يعيث في الأرض فساداً إلا أنه لا يستطيع دخول المدينة لأن الله حارسها.

ومن خصائصها أن الدجال الذي يعيث في الأرض فساداً إلا أنه لا يستطيع دخول المدينة لأنها محروسة بحراسة الله تحرسها الملائكة، كما روى أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبدالله، رضي الله تعالى عنهما، قال: «مثل المدينة كالكير، وحرَّم إبراهيم مكة، وأنا أحرم المدينة، وهي كمكة حرام ما بين حَرَّتيها، وحِماها كله، لا يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل منها، ولا يقربها - إن شاء الله - الطاعون، ولا الدجال، والملائكة يحرسونها على أنقابها، وأبوابها»، قال جابر: وإني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «ولا يحل لأحد يحمل فيها سلاحاً لقتال».

فهي كالكير تنفي خبثها، فلا يبقى فيها إلا مؤمن، ومن أرادها من أهل الفجور فإنه ينماع ويذوب كما يذوب الملح في الماء، وهي حرم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يحمل فيها سلاح ولا يحل فيها قتال، كحرم مكة وأشد، وفيها من البركة ضعفا ما بمكة، وهي دار الإيمان ومأرزه، وفيها روضة من رياض الجنان، كما نطق بذلك الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم، ولها من الفضائل ما لا يحصى، حتى إن الإمام مالكاً، رحمه الله، يفضلها على مكة؛ لأن الله تعالى اختارها لرسوله، ولا يختار له إلا الأفضل، والخلاف الفقهي في غير قبره الشريف، أما هو فمحل اتفاق أنه لا يفضله شيء من البقاع كما قالوا:

جزم الجميعُ بأن خير الأرض ما ... قد حاط ذات المصطفى وحواها

ونعم لقد صدقوا بساكنها علت ... كالنفس حين زكت زكي مأواها

وفي ذلك يقول القاضي عياض، رحمه الله، في الشفاء:

وجدير بمواطن عُمِّرت بالوحي والتنزيل، وتردد فيها جبريل وميكائيل، وعرجت منها الملائكة والروح، وضجَّت عرصاتها بالتقديس والتسبيح، واشتملت تربتها على جسد سيد البشر، وانتشر عنها من دين الله وسنة رسوله ما انتشر، مدارس آيات، ومساجد صلوات، ومشاهد الفضائل والخيرات، ومعاهد البراهين والمعجزات، ومناسك الدين ومشاعر المسلمين، ومواقف سيد المرسلين ومتبوء خاتم النبيين، حيث انفجرت النبوة وفاض عُبابها، ومواطن مهبط الرسالة، وأوّل أرض مس جلد المصطفى ترابها؛ أن تعظم عرصاتها وتتنسم نفحاتها».

أرض مشى جبريل في عرصاتها ... واللهُ شرفها به وحماها

هي طيبة طابت بطيب محمد ... وبعزه عزت وعز رُباها

هذه هي مدينة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، التي دنسها الإرهاب، وأساء فيها الأدب، وآذى فيها النبي، صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين، فهل يعقل أولئك المجرمون هذه المعاني التي لا يختلف فيها المسلمون، فأينهم من كل ذلك والله تعالى رقيب عليهم والمؤمنون شهود.

إن المسلمين أجمعين يتميَّزون من الغيظ على أولئك المجرمين، لجرأتهم على ذلك المكان المقدس بتفجيراتهم ومعتقداتهم، حيث لم يكن أحد يتوقع أن تصل بهم الجرأة إلى ذلك المستوى، وإن كانت جرأة أشباههم على حرم الله الآمن مطلع القرن الهجري 14 شبيهتها، فإن عقولهم الإجرامية واحدة، في انتهاك المقدسات واستحلال الحرمات، ومع هذا الغيظ فإنه لا يكفهم عن إجرامهم شيء إن لم تتخذ خطوات عملية لوأد هذا الفكر المولد للتكفير والتفجير، فهو منبع الشر، ومستفحل الخطر، وانظر كيف يتجدد بين الفينة والأخرى لما بقي في الساحة عاملاً، لا كثرهم الله، ولا أبقى منهم ولا لهم تالداً ولا طارفاً.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر