5 دقائق

وداعاً أيها الشهر الكريم

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

كان السلف الصالح وتبعهم الخلف المقتفي آثارهم يبكون حرقة على وداع شهر رمضان المبارك؛ لأنهم كانوا في روضته يحبرون، بين صيام يحبه الله ويختصه لنفسه، ومناجاة ربهم بكلامه سبحانه، وتبَتُّل بقيامه، وصون للنفس عن كل ما لا يحبه الله، مع معونة الله تعالى لهم بحمايتهم من الشياطين ومردة الجن، وتشجيع بفتح أبواب الجنان وإغلاق أبواب النيران، وتشوُّفٍ لعتق الله تعالى في كل ليلة، وفي آخره كان التشوف أرجى، وتطلُّع لليلة عظيمة هي مُناهم ومقصودهم من التبتل لله تعالى، فإذا دنا فراقه حزنوا على تلك الأحوال التي لا تتهيأ في غيره، فيعبرون عن ذلك بألسنتهم وأحوالهم، بما تُكِنُّه صدورهم من محبة للطاعة، ورغبة في ما عند الله تعالى من الفضل؛ كما كان من العلامة أبي الفرج عبدالرحمن بن الجوزي، رحمه الله، الذي كان يبكي حُرقة على فراقه ويقول: «إن شهر رمضان قد انصرم وانْمحق، وتشتت نظامُه بعد أن كان قد اتسق، فكأنكم به قد رحل وانطلق، يشهد لمن أطاع وعلى من فسق، فأين الحزن لفراقه وأين القلق؟!» ثم يندبه بقوله: «ما كان أشرفَ زمانه بين صيام وسهر! وما كان أصفى أحواله من آفات الكدر! وما كان أطيب المناجاة فيه بين وسط الليل والسحر! وما كان أرق القلوب عند اشتغالها بالآيات والسور! وما كان أضوأ لآلئه في جوف الغسق»، ثم يقول معزياً الصائمين: «فيا ليت شعري من الذي قام بواجباته وسننه؟ ومن الذي تخلص من آفات الصوم وفتنه؟ ومن الذي اجتهد في عمارة زمنه؟ ومن الذي أخلص في سره وعلنه؟ ومن الذي قرع فيه باب التوبة وطرق؟».

هكذا كان شعورهم عند إحساسهم بفراق زمن الصفاء والنقاء، والتعلق برب الأرض والسماء، زمنِ مناجاة الله تعالى بالحال والمقال، وزمن تزكية النفس بالأقوال والأحوال والأفعال، زمن البعد عن الخوض في الباطل، والقرب من الحق والجود للمحروم والسائل.

ولقد كنا نتدارس هذا التوديع البديع في ليلة 29 من رمضان والعيون تتدفق، والأصوات تترقق، والقلوب تتحرق على فراق شهر التوبة والغفران والعتق من النيران، وقد أحسنت دائرة الشؤون الإسلامية بإخراج هذا الجزء النفيس من مؤلفات الإمام ابن الجوزي، بتحقيق الدكتور عبدالحكيم الأنيس، ونحن في عام القراءة اهتماماً وإشادة لوددنا أن يقرأه كل واحد مع أسرته ليشعر نفسه وأسرته بمكانة هذا الشهر في نفسه، فهو تعبير صادق عما في ضمائر الصائمين الصادقين، وبيانٌ سِحري مرهف للسامعين، ما أن يسمعه أحد حتى يجد السامع لسماعه لذة، والقارئ في مواصلة قراءته رغبة.

ولابن رجب الحنبلي كلام رائع كذلك في المجلس السادس في وداع رمضان من لطائف المعارف، بمثل تلك الحرقة على فراقه، واللوعة إلى لقاء أمثاله، ومنها قوله:

ترحَّل الشهر والهفاه وانصرما              واختص بالفوز في الجنات من خدما

وأصبح الغافل المسكين منكسرا             مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرما

هكذا يقول «مثلي» مع ما كان عليه من اغتنامه واهتبال أوقاته، فماذا نقول نحن وقد ضاعت منا جل أوقاته بفعل تداعيات المؤثرات المغفلات من السهر على المسلسلات ومتابعة المباريات والانشغال بأحداث السياسات وحوادثها المؤلمات المبكيات؟!

إن شهر رمضان المبارك الذي نودعه بحرقة؛ إلا أن سلوتنا فيه حسنُ ظننا بالله أن يكون قد قبل بضاعتنا المزجاة التي تقربنا بها إليه، وأن يكون قد أكرمنا بالقبول في ليلة القدر العظيمة التي فيها يفرق كل أمر حكيم، ويكرم فيها من لاذ بجنابه العظيم بقيام ودعاء وعمل بر، وأكثر الصائمين بحمد الله لم يحرموا من قيامها، ولو بصلاة العشاء جماعة والفجر جماعة، فذلكم هو عزاؤنا بفراق شهر الصوم، وأملنا الأكبر أن نعود إلى أمثاله بعفو وعافية ونعم متوالية.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر