أبواب

«لا تقولي إنّك خائفة!»

محمد حسن المرزوقي

يبدأ الأديب الروسي تولستوي روايته الخالدة «آنا كارنينا»، بهذه العبارة «كل العائلات السعيدة تتشابه، لكن لكل عائلة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة».

ولكن ما لا يذكره تولستوي في عبارته، أنه حتى العائلات التعيسة، لديها طريقتها الخاصة في مقاومة التعاسة أو في أسوأ الأحوال تخفيفها. إنها ترفض تصديق فكرة التعاسة كقدر، كمصير، كلعنةٍ أبديّة، وكنقطةٍ في نهاية السطر، لأنّ ذلك من شأنه أن يزلزل أركان حياتها كلها، ويقودها بالتالي إلى التساؤل: لماذا نعمل إذاً، ونتزوج، ونتشاجر، وننجب الأبناء، وقبل ذلك كله لماذا نحيا، إذا كان كل شيء في حياتنا محكوما بالتعاسة الأبدية!

عادت سامية إلى الوطن عازمةً على أن تشارك في أولمبياد لندن 2012 لتعويض خسارتها، لكنها لم تكن تعلم بأن التعاسة كانت تنتظرها في المطار بباقة من الأشواك وبيدها لافتة كتبت عليها «مرحباً بك في الجحيم مرةً أخرى».

منذ البداية، منذ لحظة الولادة، تختار التعاسة العائلات التي ستحلّ ضيفة ثقيلة الظلّ عليها، تأتي إلى منازلها بلا مواعيد مسبقة،.

في الصومال، ذلك البلد الذي لا نعرفه جيداً، عاشت سامية يوسف، تلك العدّاءة التي لا نعرفها جيداً، قصة طموحٍ وتحدٍ ورفضٍ لحياة تعيسةٍ في بلدٍ تعيس. كانت سامية يوسف، مع ذلك، ترفض مغادرة الصومال، إيماناً منها بقدرتها على تغيير مصير النساء في بلدها، الذي أحبته ولم يبادلها الحبّ. وعلى الرغم من معرفتها بأن علاقة الحبّ مع وطنها كانت من طرفٍ واحد، لم تتردّد سامية يوسف في تمثيله في أولمبياد بكين ٢٠٠٨، حيث لفتت أنظار الصحافة يومها رغم أنّها احتلّت المركز الأخير.

عادت سامية إلى الوطن عازمةً على أن تشارك في أولمبياد لندن 2012 لتعويض خسارتها، لكنها لم تكن تعلم بأن التعاسة كانت تنتظرها في المطار بباقة من الأشواك وبيدها لافتة كتبت عليها «مرحباً بك في الجحيم مرةً أخرى».

تعرضت سامية منذ عودتها إلى الصومال لإرهاب «حركة الشباب» الإسلاموية، التي كانت تسيطر على أجزاء من العاصمة مقديشو، بدأت بالتحرش بها وبعائلتها، وانتهت باغتيال والدها الذي وقف في وجه المتطرفين من أجل أن تواصل ابنته عدوها نحو حلمها. على إثر ذلك، قررت سامية أن تهاجر إلى إيطاليا، بعد أن فُجعت بموت والدها، وأدركت أنه لن يكون بعد الآن في استقبالها عندما تعود إلى المنزل، أو يتلقى التهاني بانتصاراتها، أو يهمس لها، كلما اجتاحها الخوف واليأس والتعاسة، قائلاً «لا تقولي إنك خائفة». ولكن لم تكن سامية تعلم بأن التعاسة ستكون رفيقتها في رحلتها المريرة، التي قطعت خلالها إثيوبيا والسودان وليبيا، حيث دفعتها من ظهرها إلى البحر أثناء محاولتها الوصول إلى إيطاليا.

ماتت سامية بمرارةٍ ورعب، وحيدةً، غريقةً، وعلى شفتيها ابتسامة رضا، لأنها رأت قبل أن يبتلعها البحر التعاسة، التي ما انفكت تلاحقها في حياتها، تحلق بعيداً عنها.طموح سامية ألهم الصحافي الإيطالي جوزِّبِه كاتوتسيلا، تخليد حياتها في روايته «لا تقولي إنك خائفة» تُرجمت إلى أكثر من ٤٠ لغة، وترجمتها حديثاً منشورات المتوسّط إلى العربيّة.

تذكرت وأنا أقرأ الرواية عبارة للكاتبة الزيمبابوية دامبيسا مويو، تقول فيها «إن الأمر يدعو إلى الحرج عندما يتصدى الكتّاب الغربيون للحديث عن قضايانا الإفريقية، إذ يبدو أن الغرب بعد أن انتهى من استعمار بلدان القارة قبل قرن، أصبح يستعمر اليوم قضاياها الاقتصادية والتنموية والثقافية»، لكن المفارقة أن حال الصومال، الذي كان جنوبه حتى عام ١٩٦٠ مُستعمراً من قبل إيطاليا، بينما كان شماله مُستعمراً من قبل بريطانيا، أفضل بمراحل من حاله بعد الاستقلال. الأمر الذي يدعو للحرج فعلاً بأن المستعمر، بشهادة التاريخ، هو من عمّر البلد، في حين أن من حكمه من أبناء البلد بعد استقلاله دمّره.

أمّا المفارقة الأكثر مدعاةً للحرج، أن يقوم الإيطالي (حفيد مستعمر الأمس)، عن طريق الأدب، بإعادة الحياة إلى سامية، التي سلبها الإسلاموي (مستعمر اليوم) سعادتها، وحلمها، وحياتها.

al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر