أبواب

غَيبة التماثيل!

ريم الكمالي

لطالما راودني سؤال قديم، يتجدد في كل زيارةٍ أقوم بها لمتاحف الدولة، إذ بعد رؤية الآثار المكتشفة حتى الآن، وعلى أثر كل هذه التنقيبات والمخرجات الأثرية خلال العقود الماضية.. لماذا لم نعثر على التماثيل المنحوتة بعد كل هذه الحفريات؟ فمن المعروف أن سواحل الخليج العربي إلى الصحراء الداخلية، كانت في معظمها وثنية، تعبد التماثيل الرامزة إلى آلهة متعددة.

«قلة وجود التماثيل بعد التنقيبات تدعونا إلى أسئلة متخيلة، لوثنية أخرى ربما، منها: هل أنهم كانوا يمارسون عبادات غير صنميّة، يعتكفون مثلاً للشمس والقمر والشجرة؟».

طمس الزمن بالرمل وطمر كل ما كان.. لكن البعثات الأثرية الأجنبية والعربية في المنطقة وبشكل عام، كان لها الفضل في إخراج مدن منسية من جوف الأرض، كما في الدول المجاورة كما في المملكتين السعودية والبحرين، فلقد كشف المنقبون بهما عن الكثير من التماثيل المنحوتة الكبيرة الحجم، وبأشكالها المتنوعة التي أبهرت من رآها، من تمثالٍ برونزي على شكل رجل يؤدي صلاته بخشوع، وآخر يقف متعبداً، بالإضافة إلى رؤوس من البرونز والأحجار لملوك وآلهة.. ففي العهود الوثنية كان أكثر ما يُعنى به هو النحت، وكان للنحات دور ديني في المجتمع، يمجدونه فيما يقوم به عبر أعمال نحتية توثيقاً للعبادة.

ولقد كشف لنا البحث الأثري في دولة الإمارات والمستمر، بفضل القيادات المستنيرة منذ عام 1957، عن الكثير من الآثار، خصوصاً تلك التي تعود في تاريخها إلى ما بين الألف الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، بدءاً من مدافن أم النار في أبوظبي، ومدافن حفيت وهيلي والقطارة في العين، مروراً بالقصيص وساروق الحديد في دبي، وبجبل فايا وبحيص ومليحة في الشارقة، وانتهاءً بموقع الدور في أم القيوين.

تم إخراج معظم كنوزنا الأثرية من تلك المواقع، ورغم أنها قليلة مقارنة بدول الجوار، لكنها في معظمها متشابهة من أواني الحجر والبرونز والفخار، والسيوف والخناجر والسكاكين ورؤوس السهام، وأدوات الزينة والمشغولات الذهبية والأختام.. وكل الأدوات اليومية المستخدمة في الحياة، وجدت في قبور دائرية ومدافن جماعية، دُفِن أصحابها مع ما يملكون من أغراض وممتلكات، قد تفيدهم في الحياة الأخرى حسب اعتقادهم آنذاك.. حتى إن البعض دفن مع الميت جملَه وحصانه بسروجه الذهبية كما في مليحة الشارقة، ليذهب الفارس إلى العالم الآخر مع حصانه أو ناقته.

نعود للسؤال الأول: أين التماثيل بين كل هذه المخرجات؟ ولماذا لم نجد حتى الآن بعضها؟ فهي أساس عباداتهم، يلجأون إليها أثناء الجوع والمرض والمعاناة والكوارث، ويحتمون بها لحفظ مُلكِهم وصحتهم وأعمارهم، وهذه طبيعة الإنسان عبر العصور، دائم البحث عمن يحميه، متكئاً على إله يساعده، فيتفانى بالرموز من بناء معبد إلى صنع تماثيل ترمز له، حتى يُكَوّن مكانة الإله وقداسته.

لكن قلة وجود هذه التماثيل بعد التنقيبات السابقة تدعونا إلى أسئلة متخيلة، لوثنية أخرى ربما، منها: هل أنهم كانوا يمارسون عبادات غير صنميّة، يعتكفون مثلاً للشمس والقمر والشجرة؟ هل كانوا بلا عقيدة كغيرهم من دول الجوار؟

لدينا الكثير من الأمل والثقة بالتنقيبات المستمرة، لعلها تأتي بشيء جديد، يأخذنا إلى بحث مختلف لا حصة لمنطقتنا منه، لكن هذا لا يعني تجاهل ما عُثِر عليه من تماثيل ذهبية ونحاسية وجدت في «القطارة» لثيران ووعول وغزلان.. ولا أعني رؤوس الأحصنة وأجساد الجمال وغيرها المتقنة الصنع في مليحة، والتي تعود بتاريخها للإغريق وزمن الإسكندر الأكبر حينما دخل الخليج.

ثمة دور كبير للتماثيل في بناء البحوث التاريخية، ومعرفة طريقة تفكير الإنسان القديم وعبادته لجسد النحت ورأسه وملامحه المنحوتة وطريقة وقفته، والمواد المصنوعة، من كل ما أسلفنا تنبثق استدلالات عديدة للعيون خصوصاً وطريقة حفرها، ابتسامة الوجه، شكل اللحية والأنف وما سوى ذلك.. يوسع الخيال البحثي لأثر الأجداد وسلوكهم وعقولهم.. كل هذا يمكن أن يساعد الباحثين على الكشف عن حقائق جديدة في علم الإنسان وفكره وتاريخه.

Reemalkamali@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها . 

تويتر