أبواب

روائح الحكايات..

ريم الكمالي

بعض الروايات التي نقرأها عطرية بامتياز، أحداثها فوّاحة، تشمّ عبق الحرف والوصف حتى النهاية.. تتذكر الوقائع ولسنوات بعد قراءتها، تبقى عالقة في ذاكرتك، تشمّ عبيرها وعطنها، وما جرى بها من نقل.. كما هو «غرونوي» بطل رواية «العطر» للألماني باتريك زوسكيند الذي لايزال يفوح بعطوره الإثني عشر، يشم القارئ أريج الحبك عبر الوصف، فقرةً فقرة.. ورغم قتله لفتيات كنَّ في عمر البلوغ الأول، حيث تبدأ رائحتهن الخاصة بالتكوين.. يقتلهن ليمتلك كل رائحة، ويسيطر على كل شيء.

ليس من السهل وصف الراوي روايته بالرائحة، لا شك أنه ابتكارٌ لغوي جديد، وبنفحات ونكهات ترتقي إلى أدوات فنية، يعبق بالقارئ ولا يتركه.

رواية العطر شذاها لا ينتهي، تشم روائحها وإن كانت حادة حتى نهايتها، يكفينا وصف كل خطوات البطل «غرونوي» وهو يمشي في الظلام بأمر من مربية دار الأيتام، ليأتي بأموالها المسروقة، فهي تعرف تماماً موهبته في الشم، وتدفعه ليهتدي في العتم الشديد على نقودها، ودون أن يرى شيئاً يخطو بخطوات واثقة، لتُعرفهُ الرائحة بالزوايا والأركان.. إلى الدرج الخشبي البارد والعطن المؤدي إلى السرداب. يهبط في الحلكة، حيث الموقد وبقايا رائحة فحم وخشب محروق.. يشم فقط، ليتوصل إلى رائحة أوراق النقود المنهوبة ويجدها قرب اتقاد النار.

ليس سهلاً أن يصف الراوي زوسكيند روايته بالرائحة، بحيث يقُدرها ويستدل عليها طوال الرواية.. لا شك أنه ابتكار لغوي جديد، وبنفحات ونكهات ترتقي إلى أدوات فنية، لتترسخ في ذهن القارئ كل الروائح التي يرتقبها أو يستبعدها أثناء القَطر والتقطير، ليعبق بك.

أما رواية «حلم السلتي» لماريو فارغاس يوسا، والتي كشف فيها عن حياة مناضل.. لكن بعيداً عن التحقيقات حوله ونضاله وجهاده ومرضه.. أبدع يوسا، وربما دون قصد، في إيصال رائحة النتانة للحيوانات البرية حول الأنهار، وزفر الهواء، وقوة فوح المطاط على ظهور من يستغلونهم.. لكن فجأة وعلى حين غرة يتخلل بين الجُمل طيب الندى والطين وعبير الشجر، ومروراً بغابات الأمازون في البرازيل مع انتقال الحدث ونسج الخيال، وانتشار رائحة الأدغال حتى ننغمس كقراء بأسى المكان وبؤسه.

هذا الإيصال الروحي للكلمة المعطرة، للتعبير عن أسف المكان أو بهجته، يذهبُ بنا إلى شيخنا الروائي نجيب محفوظ، الذي لولاه لما تنسّمنا رائحة الحارة، فجعل من رائحتها تفوح بنا، وبتعبير نادر البساطة أصبحت قِبلة للسائح الذي يأتي إلى مصر من أجل رؤية الهرم وتنشق الحارة بكل ما فيها من أطعمة في أول النهار، ورائحة براز الحيوانات وما تطرحه الأمعاء من فضلات، ورائحة الحشيش، وصولاً إلى رائحة التاريخ والوطن، كل هذا أبدعه بتكتيك هائل في ذاكرةٍ روائحية سردية مختلفة، لإيصال الحقيقة.

كذلك فعلت «إيزابيل ألليندي» الروائية التشيلية التي لن ننساها، والمهتمة بتفاصيل الحياة الصغيرة والعابرة أمامنا، تصف بحبٍ يعبق بروائح سردية وفق أشكالٍ لا تُنسى، ونَفَس روائي طويل يخوضها عطر حبرها الذي يتخلل روح رواياتها الأنثوية المنتشرة من عبيرها السارد، وإن تخلل سردها أحوال بلادها السياسية فإنها لا تتردد في مزجها بنتانة القرارات الآسنة، وركود رجالها، ليشم القارئ ريح الوطن بمعناه وشرعيته.

وفي روايتي «سلطنة هرمز»، إن جاز لي الحديث عنها قليلاً، وتحديداً في مشهد شَعر البطلة «بدرة» وطقسه الروائحي في تمشيطه وإعداده وتضفيره، والذي بات من الماضي، لم يكن القصد مني سوى استحضاره وتركه موثقاً في الرواية.. لكن القارئ أخذ يذكرني دائماً بعطر هذا المشهد ومِسكه وعُوده.. حينها علمتُ بأن ما قرأته من روايات فائحة، قد تأرجت بداخلي كما يبدو، لأنشر ما بي في ضمخ شَعر بدرة بمخمريةٍ وياسٍ ومسك.. وتبقى فينا رائحة ما نقرأ.

Reemalkamali@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها .

تويتر