5 دقائق

الأمة الحية هي التي تقرأ

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

للإنسان غريزتان تكونان حياته؛ فبهما يعيش ويسعد أو يشقى ويتعس؛ هما الغريزة الحسية التي تتعلق ببناء الجسم وبقائه حياً ذاتاً ونوعاً، وتلك هي غريزة الشبع والري والشهوة، وهذه الغريزة جعلها الله مشتركة بين خلقه من الكائنات الحية، وإشباعها سهل، فبمجرد ملئها تنكسر نهمتها ويحصل المراد ولا تحتاج المزيد، بل تعاف النفس ما زاد على حاجتها.

والغريزة المعنوية التي لا تُشبع هي غريزة المعرفة التي يتميز بها الإنسان عن غيره، ولأجلها أسجد الله تعالى الملائكة الكرام لأبينا آدم عليه السلام، والتي بها ينمو العقل ويزكو الخُلق، وتعظم المرتبة، ويشرف بها المرء في قومه، وغذاء هذه الغريزة هي القراءة الماتعة النافعة، ويترتب على كل غريزة منهما الحياة والموت، فالجسم إذا لم يتغذَّ بما يحتاجه من غرائزه يموت، فتفسد حياته، والعقل إذا لم يتغذَّ بما يحتاجه من غرائزه يموت كذلك، إلا أن موت العقل أخطر من موت الجسم، فالجسم يموت لا محالة مهما أُشبعت غرائزه، لكن العقل إن أشبعت غرائزه لا يموت، فإنه عندما يحيا ينتج ما يُمد حياته أزمنة مديدة، فيعيش مع أجيال متعاقبة يذكر ويثنى عليه، ويناقش ويرد عليه، ويؤيد ويعتمد عليه، وينظَّر من كلامه وينفع أمماً وأفراداً، كما قالوا:

قد مات قوم وما ماتت مآثرهم     وعاش قوم وهم في الناس أموات

وأشار إلى ذلك الزمخشري بقوله:

ما نسل عقلي كنسل صلبي من قاس رُد له قياسَه

كم بين مسلك صحيح وسالك مسلك الخساسه

وها نحن نعيش مع أقوام قد ماتت أجسادهم من مئات وآلاف السنين، نعيش مع تراثهم العلمي في تخصصاتهم المختلفة، فنستفيد من فقههم وأدبهم وابتكاراتهم وصنائعهم، التي اقتبسوها من معارف مَن قبلهم، وأعملوا أذهانهم في فهم العلوم والمعارف فابتكروا وأنتجوا وطوروا ما قد سبق، حتى تكاملت حضارة اللاحقين بالسابقين، وشواهد العصر قائمة على أن الأمة التي تقرأ هي التي تبتكر وتعيش عيشة سعيدة، وهذا من مسلمات العقول لدى الجميع، ولذلك ترى كل أمة تشيد المدارس والمعاهد والكليات والجامعات ومراكز البحوث حتى تخرّج أجيالاً تقرأ وتبتكر وتسعد نفسها والبشرية معها.

وهذا ما يهدف إليه حكماؤنا الذين وضعوا لبناتٍ أساسية للأمة كي تقرأ وتسعد، وهذه الحملة التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، حفظه الله، كإحدى فعاليات عام المعرفة هي في الحقيقة دعوة للحياة ودعوة للسعادة، أما كونها دعوة للحياة فلما تقدم أن من يقرأ ينتج وينفع فيعيش أزمنة ويعايش أجيالاً بما خلفه من معارف ومنافع، وأما كونها تسعد فإن السعادة بالقراءة لا تعدلها سعادة أخرى في هذه الحياة، حيث تغذي العقل واللب بما يقرأ، فيجد المرء في ذلك سلوته وأنسه كما قال الزمخشري، ويعزى للشافعي:

سهري لتنقيح العلوم ألذُّ لي ... من وصل غانيةٍ وطيب عناقِ

وصرير أقلامي على صفحاتها ... أحلى من الدوكاء والعشاق

وألذُّ من نقر الفتاة لدُفِّها ... نقري لأُلقي الرملَ عن أوراقي

وتمايلي طرباً لحل عويصةٍ ... في الدرس أشهى من مُدامة ساق

هكذا يعبر عن لذة القراءة والفهم وحل عويصات المسائل؛ لأنه عرف قيمة القراءة وعظيم نفعها، وكما قالوا:

لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصَّبابة إلا من يُعانيها

ولما كان الشيخ محمد أديباً أريباً شاعراً مفلقاً، فهو يعرف قيمة القراءة والعلم، فأراد أن يكون الجميع قارئاً مطلعاً مشاركاً في ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، وهو العلم، لذلك كانت حملته المباركة التي هي مزدوجة بين إيجاد المقروء والقارئ والوسيلة، حتى يكون الجميع مشاركاً فاعلاً في هذا النفع العام، ومشاركة أرباب الأموال بإيجاد الكتاب المقروء والمدرسة التي هي وسيلة لإيجاد القراءة تعتبر من أجل ما ينفعهم في الدنيا محمدة وفي الآخرة أجراً، والكل في ميزان صاحب الحملة وفقه الله وحفظه.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر