أبواب

«غليلة» عروس ماضينا

ريم الكمالي

يجتنون محاصيلهم كل موسم، غلال صفراء نضرة لا مثيل لها، تدس الشمس ضوءها بمحبة في الحصيد، لتستريح «غليلة» كلها شبعاً وارتواءً.

زراعة القمح في قرية «غليلة» برأس الخيمة سمةٌ لاسمها، فهي الغلة التي تأخذ في معناها الكفاف، ومن ثم الفرح والانفراج.. وبالمقابل، وفي معنى آخر، فإن «غلة» هي اللوعة والهيام والجوى.. لِمَ لا؟.. والعريس في غليلة كي يثبت محبته لعروسه، عليه أن يجري منطلقاً ولمسافة لا بأس بها في يوم عرسه، كي يثبت لها مدى عدوه وسرعته وصحته وكمال عشقه.

في غليلة الكثير من الكفاءات العلمية، فأهلها معظمهم متعلمون، وفيهم من الخصائل الطيبة الكثير، فهم كرماء طيّبو المعشر، يعيشون في ائتلاف اجتماعي إنساني لا حدود له.

تواجه «غليلة» وجه البحر الذي لا شواطئ له، لذلك لا ترسو عليه السفن.. وتنام في دعة على صدر الجبل (جيس)، وهو أعلى قمة في الإمارات، وتطل على سهلها الجميل الذي صنعه أهلها بأنفسهم، وانتهضوا به، فقبل المطر يقومون بتنظيف طرق مياه الأمطار من الحصى، ينثرون البذور في طريق المياه، ويخفونها في التربة كي لا تأكلها الطيور، تتألق شلالات المطر وتهبط عليها بحب من أعلى الجبل لتجري في وديانها منسابة صانعةً السهول، وتنبت الغلة مع الوقت، وتكتمل البسيطة عند وادي غليلة، وتستمر في حصادها بأمان عاماً بعد عام، فالصخر قد احتواها، وضمها، ولن يخذلها، وإن خذلها المطر ولم يأتِ فإنهم يستمرون في زرع الوادي، فحلو مياهها في جوف آبارها الكريمة.

في غليلة التي تزرع البُر، وتحصد الغلة الذهبية بفرح في مواسمها، للنخيل والشريش نصيب في إطلالتها على بيوتها الحجرية، وعلى امتداد المرعى، من زهور وحشائش للماشية.

وكما للحيّ نصيب فللميت من الأغراب نصيب، إذ خصصوا لهم قبراً من بين تسعة قبور.. يدعى قبر اليهود، ينام في أسفله 500 شاهد، حمراء اللون، كلها تتشابه، ولا يعني أن الموتى من الديانة اليهودية، بل يدفن بها معظم من قذفهم البحر، الغرقى، أو الذين رموا من السفن تخلصاً بعد اشتباك.. نتخيل ما نتخيله، لكن ما أن يصل هذا المجهول إلى شاطئ غليلة الذي بلا مرسى ترسو عليه السفن، يُكْرم بالدفن، فإن لم يكن مختوناً يدفن في مقبرة اليهود، بينما ينام المختون في قبور المسلمين.

وفي حديثنا عن القبور، فإن في غليلة كنزاً من القبور، من ضمنها مقبرة «غليلة» التاريخية، التي تعود بتاريخها إلى 4000 عام، والتي عثروا فيها على هياكل عظمية مبعثرة، تختلط ببعضها بعضاً، ما عدا هيكلين مكتملين، ولم يتم التعرف إلى أعداد الموتى إلا بعد إيجاد 53 ختماً معلقاً على صدور الموتى ورقابهم، والأختام كلها منقوشة بنقوش تعود إلى القرن الأول قبل ميلاد المسيح.. إذ كانت الأختام حينها دليل الهوية والسفر والترحال.. ولأن الختم لم يفارق الإنسان الأول في حياته ومماته، فهو دليل الهوية حتى الوفاة.

ووجدوا بداخلها آثاراً من أدوات زينة وأوانٍ برونزية وفضية وفخارية، بنقوش تعود إلى حقب متعددة توالت على أرضها.

وتبقى غليلة - رغم صغر حجمها - متنوعة بآثارها وطبيعتها وكثرة حكاياها.. جعل الزمن أهلها لفرط عزلتهم متعاضدين ومتماسكين في ما بينهم، ينتقلون خلال العام الواحد في سكن العيش بين الجبل في الشتاء والساحل في الصيف، أما في ما بينهما، فيقيمون على سهل هذا السطح الرائق والمنقاد نحو البحر.

وبعد.. فإن في غليلة الكثير من الكفاءات العلمية، فأهلها معظمهم متعلمون، وفيهم من الخصائل الطيبة الكثير، فهم كرماء طيّبو المعشر، يعيشون في ائتلاف اجتماعي إنساني لا حدود له.

Reemalkamali@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها . 

تويتر