5 دقائق

شهر رمضان والقرآن

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

للحوادث تاريخٌ يُذكر، وخبر ينشر، وأعظم الحوادث أثراً ما كان به حياة الأمم وسعادة البشر، وذلكم هو تنزُّل القرآن العظيم على سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد بن عبدالله، صلوات الله وسلامه عليه، فإن الله تعالى أرَّخ لنزوله زماناً وإنساناً ومكاناً، فأخبر أنه أنزله في شهر رمضان فقال سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وفي ليلة مباركة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} وهي ليلة القدر{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، وعلى الإنسان الذي اصطفاه الله تعالى على العالمين وجعله رحمة وبشيراً ونذيراً لهم، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}.

ونحن في زمان الأشغال الشاقة والعلائق الكثيرة قد يسر الله لنا القرآن للذكر.

وأما المكان فإنه مرتبط بالإنسان الذي نزل عليه القرآن، فهو مكة أم القرى، التي بها ولد وبها نشأ، وفي غار حراء الذي كان به يتحنَّث ويخلو بنفسه للتفكر في ملكوت الله؛ فهو تاريخ موثق ويجب أن يتجدد ذكره في كل وقت، ولكنه في ذكرى تنزله أعظم وأحرى، ولذلك كان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسفير الوحي وناموسه جبريل عليه السلام، وهما طرفا الوحي تنزيلاً وتلقياً؛ كان لهما شأن آخر في شهر تنزله، فقد كانا يلتقيان في هذا الشهر التقاءً خاصاً غير التقاء الوحي المتجدد؛ إنه التقاء مدارسة القرآن لا غير، كما روى ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، قال: «كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله، صلى الله عليه وسلم، أجود بالخير من الريح المرسلة»، فدل الحديث على أمور منها ما ذكرناه من تجديد ذكرى تنزل القرآن، فقد كانا يحييان هذه الذكرى بمذاكرتها، وليس ذلك لترسيخ حفظه كما قد يبدو للوهلة الأولى، فإن الله تعالى قد تكفل بتثبيته في فؤاده وحفظه {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}، حتى أن الله نهى نبيه عن ترديده فور تلقيه تطميناً له بحفظه، كما قال سبحانه {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}، فدل ذلك على أن القصد من تدارس القرآن هو تجديد ذكراه وتعليم الأمة الاعتناء بهذه الذكرى، ومن أجل ذلك شُرع القيام بالقرآن ليشترك القارئ والسامع في إحياء هذه الذكرى العظيمة، ومن أجل ذلك كان السلف الصالح، رحمهم الله، أشد اعتناء بالقرآن في هذا الشهر، فكانوا يذرون الدروس وينقطعون حتى عن المعايش ويقبلون على القرآن فيتلونه حق تلاوته كثرة وتدبراً وعملاً؛ لأنهم فهموا الإيحاء الرباني من التذكير بتنزُّله في هذا الشهر، وبادروا لتلبية مراد الله منه؛ فمنهم القائم به بالليل فيختم، والتالي بالنهار فيختم، ومنهم من يختمه في الليل والنهار ختمة، ومنهم من يختمه في ثلاث، ومنهم من يختمه في سبع.. والكل يقرأ بتدبر لأنهم يقرأون باستحضار فتتوارد المعاني عليهم عند التلاوة لعلمهم وفهمهم للسان العربي ومقاصد الشارع الحكيم.

ونحن في زمان الأشغال الشاقة والعلائق الكثيرة قد يسر الله لنا القرآن للذكر؛ فأصبح في جيب كل أحد، إن لم يكن في صدره، من خلال جواله، فكلما وجد فرصة سانحة فتحه وقرأ، ومن فضل الله أن هذا الجهاز ليس كالمصحف الذي لا يُمس إلا على طهارة، لأنه ممغنط لا يأخذ حكم المصحف من حيث الحمل، ومن تيسير الله للقرآن كذلك أن أصبح في متناول كل سامع من خلال أجهزة الراديو والبرامج المحملة، فمن اشتغل بالسير وزحمته وأهواله سمع القرآن حتى يقضي سيره، وهكذا يُحيي الصائم صومه بالقرآن والذكر فيكون من المفلحين.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر