أبواب

اللبن المسكوب في البرتغال!

جمال الشحي

حسب الروايات التاريخية، أن بابا الفاتيكان، ألكسندر السادس، في القرن الخامس عشر، قسم العالم بين إمبراطوريتين استعماريتين، هما إسبانيا والبرتغال. ووضع خطاً وهمياً من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها. وقام بذلك حتى يحسم الصراع على المناطق المكتشفة في كوكب الأرض بين الدولتين

الصغيرتين نسبياً، ما جعلهما خلال فترة وجيزة أقوى دولتين في العالم؛ بفضل هذا المرسوم الكنسي المثير للجدل، الذي حمل بين طياته أسباباً دينية واقتصادية وأيضاً الكثير من الذهب والفضة للكنيسة.

ما قام به الحبر الأعظم يعبّر عن مدى هيمنة الكنيسة، أو السلطة الدينية على السياسة في تلك الفترة من التاريخ الغربي. وهو قرار ينطوي على الكثير من التعالي والتكبر والتجبر على شعوب العالم. واحتاج الوعي الإنساني نحو ستمائة سنة؛ حتى اعتبره وصمة عار على جبين التاريخ البرتغالي والإسباني، أو على الأقل هذا ما تعتبره النخب الثقافية في عالم اليوم، خصوصاً منهم الغربيين.

ومعلوم أن البرتغاليين كانوا قد وصلوا إلى بلادنا بفضائل ذاك القرار، وسيطروا على سواحلنا، وهيمنوا على التجارة البحرية في القرن السادس عشر، ووصلوا أيضاً إلى الهند، ونافسوا التجار العرب وأصبحوا، لقرن كامل قادم، المهيمنين الرئيسين على التجارة البحرية بين آسيا وإفريقيا وأوربا. وقاوم أجدادنا الاستعمار بكل الأدوات المتاحة لهم، لقد كانوا مثل كل الشعوب الحية التي ترفض المستعمر ولا ترضى بالاحتلال، وكانت لهم بطولات وصولات وجولات ضد المستعمر، الذي ذهب كما ذهب غيره من الغزاة، ولن يرجع أبداً.

• البرتغاليون يحبون السفر والهجرة، ويحبون أيضاً بلادهم، والثقافة لديهم تقوم بدورها في تشكيل الوعي كما يجب. والإنتاج الأدبي المختلف، الذي يحمل تراثاً ممتداً لأكثر من ألف سنة من الثقافة المتنوعة، لايزال حاضراً وموثقاً بطريقة مميزة.

أذكر هذه المقدمة وأنا في مدينة لشبونة عاصمة البرتغال، وتسمى أيضاً مدينة التلال السبعة، حيث بنيت على سبع هضاب تحيط بالمدينة.

لا ريب أن أهل المدينة يعرفون تاريخهم جيداً، ويفتخرون به بصفة عامة، ويخجلون من بعض الأحداث المتعلقة بالقتل والاحتلال، إلا أن كثيرين من البرتغاليين، الذين التقيتهم، يتحدثون عن الماضي بفخر، وعن الحاضر بحذر، وعن المستقبل بالكثير من الشك؛ إذ إن هناك أزمة اقتصادية خانقة، وتحديات كبيرة أمام الحكومة الجديدة.

البرتغاليون يحبون السفر والهجرة ويحبون أيضاً بلادهم، والثقافة لديهم تقوم بدورها في تشكيل الوعي كما يجب، وهم يصونون أدبهم ويخلدون أدباءهم بطريقة رائعة، فتجدهم حاضرين في المتاحف والمراكز الثقافية والتماثيل في كل الميادين والمناطق المهمة. رموزهم الأدبية جزء من الذاكرة الجمعية، ومنهج أساسي في التعليم لكل الأجيال، فالإنتاج الأدبي المختلف، الذي يحمل تراثاً ممتداً لأكثر من ألف سنة من الثقافة المتنوعة، لايزال حاضراً وموثقاً بطريقة مميزة.

نهر التاجو يمتد نحو ألف كيلومتر، من إسبانيا مروراً بالبرتغال وينتهي في المحيط الأطلسي. العاصمة تقع مباشرة على النهر، في المنطقة التي يلتقي فيها الماء العذب بماء المحيط المالح، وما بين الملوحة والعذوبة، تستطيع أن تفهم تاريخ هذه المدينة التي كانت يوماً ما عاصمة العالم.

يقول صاحبي: الماضي والإرث التاريخي يرهق كاهل المدن أحياناً.

قلت له: ربما، ولكن المهم ألا تبقى المدن نائمة في أرجوحة الماضي، وأهلها أسرى البكاء على اللبن المسكوب ليل نهار!

قال: الذاكرة نعمة حِيناً، ولعنة أحياناً.

قلت له : ما الذي شدك في حكاية هذه المدينة؟

قال لي: كمية الماء العذب المهدور الذي يضيع في المحيط! ليته يتحول إلى بلادنا، ويحل لنا مشكلة المياه!

قلت له: لا تعليق.

jamal.alshehhi@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر