أبواب

شواهد بلا قبور

أحمد حسن الزعبي

الحكاية موجعة عندما تعرف أن هناك أكثر من 1250 إنساناً عربياً، يتوزعون بين رجل وطفل وامرأة، دفنوا في قبور دون شواهد على حدود تركيا واليونان وإيطاليا، بعد أن قضوا غرقاً خلال العامين الماضيين، لكن ستصبح الحكاية موجعة أكثر عندما نعرف أن اللاجئ المشغول بلفظ أنفاسه لا يلفظ اسمه قبل موته حتى يعرفه الآخرون ويدونوا ذلك على شاهد القبر، ثم ما فائدة الاسم إذا راح العمر بكل تفاصيله، لذا لم يكن أمام خفر السواحل إلا أن أعطوا العربي الهارب من النار إلى الماء رقماً تسلسلياً وحسب، والرقم التسلسلي مثل جهنم لا يشبع ولا يقفل، فكلما أضيف رقم أفسح على يمينه لرقم جديد.

1250 شهيداً دفنوا بقبور بلا شواهد، وأكثر من 8000 شهيد ابتلعهم البحر ولم يفصح عن هويتهم بعد، أكثر من 8000 شهيد التقمهم حوت الموت، فلا عراء ينتبذون إليه، ولا شجرة تظللهم.

بالمناسبة، لا يوجد في اللجوء شيء يُدعى «حسن الحظ»، فبمجرد الخروج من سرداب الوطن سيلازمك سوء الحظ حتى الممات، لكن ربما بعض حسن سوء الحظّ - إن جاز التعبير ــ أن البحر قد لفظ الألف شهيد ويزيد ليعيدهم إلى أمهم الأرض، وكأنه يقول لها: «هذه بضاعتك ردّت إليك»، فدفنوا على أكمام دول المتوسط بأرقام متتالية، حسب الأصول وتاريخ الوصول، القادم على متن موجة أو هذيان مدٍ طويل.. هناك قد تقف على الشواهد النوارس، وتصيح في وداع الشمس، أو قد يمرّ لاجئ حي فيضع وردة عشوائية على رقم عشوائي، أو ربما يَنْبُت زهر بري في ربيع أوروبا يزين الموت المجهول.

1250 شهيداً دفنوا بقبور بلا شواهد، وهناك أكثر من 8000 شهيد ابتلعهم البحر، ولم يفصح عن هويتهم بعد، أكثر من 8000 شهيد التقمهم حوت الموت، فلا عراء ينتبذون إليه ولا شجرة تظللهم، أكثر من 8000 شهيد يضربون بأصواتهم موج الغروب، يلعنون ظلم الحروب، ثم يتكاثرون زبداً بشرياً ما يلبث أن يذوب.

**

العربي لا يزعجه الرقم المتسلسل كبديل للاسم أبداً، ففي ميلاده يعطونه رقماً وطنياً، وفي الانتخابات رقماً انتخابياً، وفي توزيع الخيم رقماً أممياً، وفي الموت رقماً غياباً، فلذلك طَمْس الاسم ليس عارضاً عند تثبيت الشاهد على رأس القبر أو لحظة الشهادة، طمس الاسم بروتوكول منذ تسوية فراش الولادة، فنحن مجرد أرقام، والأرقام بنظرهم لا تنتهي، تتجدد حسب الحاجة، وحسب الرغبة، الأرقام بنظرهم لا تفنى إلا إذا ارتطمت بصفر الموت، فلا يغرنّك كبر رقمك أو علوه، ما دام «الصفر» بأيديهم.

قلنا إن الحكاية موجعة عندما تعرف أن هناك أكثر من 1250 إنساناً عربياً، يتوزّعون بين رجل وطفل وامرأة، دفنوا في «قبور دون شواهد» على حدود تركيا واليونان وإيطاليا، لكن الحكاية تصبح موجعة أكبر عندما تعرف أن هناك أكثر من 350 مليون عربي عبارة عن «شواهد بلا قبور»، يتوزعون على حدود الوجع الممتد من نواكشوط إلى جسر الشغور.

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر