أبواب

سؤالٌ بلا إجابة

ريم الكمالي

سؤال الفقر لا إجابة له، رغم المحاولات فالجواب أشبه بالهروب، يبدو شبيهاً بالفقد ليفسرهُ البعض بأنه القدر ولا مفر منه، أو حقيقة لابد منها، ويعلله البعض الآخر بأنه بؤسٌ لم تُعَظّمه سوى مخلفات الحروب والكوارث الطبيعية.. اختلفت التفسيرات حتى أتى العالم الحديث ليوضح أن الفقر أسبابه عديدة، لكنه وليد المركزية الصارخة في الحكومات الفاسدة، كما أنه واقعٌ مرير يزداد بازدياد سكان الأرض، ولم تفلح كل المكافحات والعلاجات في إنهائه تماماً، رغم الاستراتيجيات الكبرى والنوايا الطيبة للأديان وتفعيل نصائحها السماوية في الصدقة والزكاة، ورغم الجمعيات المساهمة وإنشاء المؤسسات الضخمة، وتفعيل الخطط والبرامج على المدى البعيد والقريب.. لكن هل من الممكن حقاً إنهاؤه؟

رغم الإبداع الإنساني المتعدد عن الفقر، لكنني لم أجد من يعبر عنه وبعمقٍ مباشر كما فعل الرسام الإسباني بابلو بيكاسو في لوحته «المأساة»، وفي مشهد بسيط جداً، مشاهدتها توحي بهذا القاع الذي لا نهاية له.

من جهة أخرى، حاول المبدعون التعبير عن الفقر في فنونهم للتأثير، والتصعيد بالشعور الإنساني، فكانت رواية «البؤساء» للفرنسي فيكتور هوغو الصادرة في القرن التاسع عشر، حيث كشف مؤلفها عن زيف العدالة الاجتماعية والأخلاق والقانون.. لتبقى الرواية مستمرة وحية تُعذب روح قارئها حتى هذه اللحظة.. أتت بعدها رواية «عناقيد الغضب» للأميركي جون شتاينبك، الذي فاز عنها بجائزة البوليتزر عام 1940، بعد وصفه فيها حالة المعدمين والمهمشين وهم في هاويتهم.. أمّا في عالمنا العربي فتحضرني رواية «الخبز الخافي» التي صدرت - بعد حبسها سنوات طويلة في الأدراج - لمؤلفها المغربي محمد شكري، وكم كانت صادمة للقارئ العربي في واقعية النص عن مرارة الكفاف التي أودت إلى الانحراف والقتل.

ورغم الإبداع الإنساني المتعدد عن الفقر، لكنني لم أجد من يعبر عنه وبعمقٍ مباشر كما فعل الرسام الإسباني بابلو بيكاسو في لوحته «المأساة»، وفي مشهد بسيط جداً، مشاهدتها توحي بهذا القاع الذي لا نهاية له. برع في رسم لغة الجسد لعائلة من أب وأم وطفل فقط ولا شيء آخر، يقفون معاً لكنهم في انفصالٍ هائل، وتناقض صارخ لمعنى العائلة، فلا ينظر أيٌّ منهم للآخر.. الفتى الطفل الذي بدأ يدرك الواقع يؤشر بيديه، ويحدق في اللاشيء، وكأنه ينطق: لماذا؟ سؤال الذهول والدهشة من واقعٍ بدأ يحسه، لتختبئ الأم في نفسها ولا يظهر سوى نصف وجهها في اللوحة، لأن وعي طفلها أصبح عميقاً ولم تعد قادرة على مجابهته أو مواجهته، ولابد من التكيف مع الفقر.. كذلك الأب الذي يتطلع باتجاه الأرض، يجمع كوعيه في صدره من قوة البرد، فتبدو لغة جسده متوترة، وكأنه يحجز شيئاً لا يريد الإفصاح عنه، أو يعرف عن ذنبه الغامض الذي يعرفه ولا يعرفه.

يوحي المشهد بالصقيع، بسبب درجات اللون الأزرق الشاحب والمتدرج من أعلى اللوحة إلى أسفلها، لتكتسيهم زُرقة الكآبة والأسف وهم حفاةٌ في جو رطب يرتجفون في فجيعتهم المأساوية بلا خيار آخر.

كل أطفالنا يسألون وهذا حقهم الطبيعي بعد أن يأتوا إلى حياة ملونة يعشقون اكتشافها، لنجيبهم بحب.. أما في هذه اللوحة، فيُخرج بيكاسو السؤال الأول للطفل الفقير، لماذا؟ وكأنه يتأمله بدهشةٍ تعج بالألغاز.. يطرحه لتمضي مفرداته مع النسائم الباردة ولا تأتي بإجابة، ويبقى الأب والأم ينظران باتجاه حزنهما هرباً، كشعور العاجزين، لتخرج مشاعر إنسانية تعيسة من خلال اللوحة، تبرز فيها قدرات بيكاسو الهائلة وهو في بداياته التي أُطلقت عليها «المرحلة الزرقاء»، وقد أجاد لأنه عاش الفقر، وأحرق الكثير من لوحاته طلباً للدفء.

أخيراً، وبعيداً عن التنميات والاستراتيجيات والأمنيات، فإنه يتم صناعة الفقر من خلال الحروب والزلازل والخيانات الإدارية وفسادها.. لينتشر الفقر رغم مكافحة العالم له، ويبقى بلا إجابة.

Reemalkamali@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها.

 

تويتر